الباحث القرآني

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ [حَالِ] [[زيادة من ت.]] السُّعَدَاءِ -وَلِهَذَا سُمّي الْقُرْآنُ مَثَانِيَ-فَقَالَ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ: لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ﴿فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، قَدْ أَمِنُوا فِيهَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَجَزَعٍ [[في م: "وجوع".]] وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَسَائِرِ الْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ. ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا أُولَئِكَ فِيهِ مِنْ شَجَرِ [[في ت، م: "شرب".]] الزَّقُّومِ، وَشُرْبِ الْحَمِيمِ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وَهُوَ: رَفِيعُ الْحَرِيرِ، كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا [[في ت: "وغيرها".]] ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وَهُوَ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَذَلِكَ كَالرِّيَاشِ، وَمَا يُلْبَسُ عَلَى أَعَالِي الْقُمَاشِ، ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ أَيْ: عَلَى السُّرُرِ لَا يَجْلِسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَظَهْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ أَيْ: هَذَا الْعَطَاءُ مَعَ مَا قَدْ مَنَحْنَاهُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ اللَّاتِي ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٥٦، ٧٤] ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٥٨] ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٦٠] . قَالَ [[في ت: "وروى".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ -رَفَعَهُ نُوحٌ-قَالَ: لَوْ أَنَّ حَوْرَاءَ بَزَقَت فِي بَحْرٍ لُجِّي، لعَذُبَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِعُذُوبَةِ رِيقِهَا [[ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (٣٨٦) من وجه آخر، فرواه من طريق محمد بن إسماعيل الحساني، عن منصور الواسطي، عن أبي النصر الأبار، عن أنس مرفوعا بنحوه.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ أُحْضِرَ لَهُمْ، وَهُمْ آمِنُونَ مِنِ انْقِطَاعِهِ وَامْتِنَاعِهِ، بَلْ يَحْضُرُ إِلَيْهِمْ [[في ت، م، أ: "لهم".]] كُلَّمَا أَرَادُوا. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى﴾ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ يُؤَكِّدُ النَّفْيَ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أَبَدًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا [[في أ: "بلا".]] مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا [[في أ: "بلا".]] مَوْتَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [[انظر: تخريج الحديث عند الآية: ٣٩ من سورة مريم.]] . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: إِنْ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَعِيشُوا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأسوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ [[صحيح مسلم برقم (٢٨٣٧) .]] . هَكَذَا يَقُولُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ "أَبُو مُسْلِمٍ الْأَغَرُّ"، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: "أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرُّ" [[والأول هو الصواب كما بين ذلك الإمام المزي في تهذيب الكمال.]] . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَان، عَنِ الْحَجَّاجِ -هُوَ ابْنُ حَجَّاجٍ [[في أ: "الحجاج".]] -عَنْ عُبَادَةَ [[في م، أ: "قتادة".]] ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنِ اتَّقَى اللَّهَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، يَنْعَمُ فِيهَا وَلَا يَبْأَسُ، وَيَحْيَا فِيهَا فَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ" [[ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٨٩٥) "مجمع البحرين" من طريق أحمد بن حفص به.]] . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ الرَّبِيعِ الْكُوفِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئل نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: "النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ" [[المعجم الأوسط برقم (٤٨٧٥) "مجمع البحرين" وفي إسناده مصعب بن إبراهيم العبسي، منكر الحديث.]] . وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُرْدَويه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ صَدَقَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمنكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ" [[ورواه أبو نعيم في الحلية (٧/٩٠) من طريق أحمد بن القاسم عن المقدام بن داود به، وقال: "غريب من حديث الثوري، تفرد به عبد الله".]] . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفِريابي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "لَا النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ" ثُمَّ قَالَ: "لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ إِلَّا الثَّوْرِيَّ، وَلَا عَنِ الثَّوْرِيِّ، إِلَّا الْفِرْيَابِيَّ" [[مسند البزار برقم (٣٥١٧) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (١٠/٤١٥) : "رجال البزار رجال الصحيح".]] هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ: مَعَ هَذَا النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْمُقِيمِ قَدْ وَقَاهُمْ، وَسَلَّمَهُمْ وَنَجَّاهُمْ وَزَحْزَحَهُمْ مِنَ [[في ت: "عن".]] الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي دَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، فَحَصَلَ لَهُمُ المطلوب، ونجاهم من المرهوب؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا [[في ت: "ذلك".]] بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ [[في أ: "الصحيحين".]] عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُدخله عَمَلُهُ الْجَنَّةَ" قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يتغمَّدني اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ" [[صحيح البخاري برقم (٦٤٦٧) من حديث عائشة، رضي الله عنها.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ: يَتَفَهَّمُونَ وَيَعْمَلُونَ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَفَرَ وَخَالَفَ وَعَانَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُسَلِّيًا لَهُ وَوَاعِدًا لَهُ بِالنَّصْرِ، وَمُتَوَعِّدًا لِمَنْ كَذَّبَهُ بِالْعَطَبِ وَالْهَلَاكِ: ﴿فَارْتَقِبْ﴾ أَيِ: انْتَظِرْ ﴿إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ﴾ أَيْ: فَسَيَعْلَمُونَ [[في م: "فستعلمون".]] لِمَنْ يَكُونُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وعُلُو الْكَلِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِإِخْوَانِكَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَنِ اتَّبَعَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢] . آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب