الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي بَلَادَتِهِمْ وَقِلَّةِ فَهْمِهِمْ حَيْثُ كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ ﴿قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ مِنَ الصَّحَابَةِ: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ أَيِ: السَّاعَةَ، لَا يَعْقِلُونَ مَا يُقَالُ [[في أ: "ما يقول".]] ، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ أَيْ: فَلَا فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ أَيْ: وَالَّذِينَ قَصَدُوا الْهِدَايَةَ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لَهَا فَهَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهَا وَزَادَهُمْ مِنْهَا، ﴿وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ أَيْ: أَلْهَمَهُمْ رُشْدَهُمْ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ أَيْ: وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْهَا، ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ أَيْ: أَمَارَاتُ اقْتِرَابِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ [النَّجْمِ: ٥٦، ٥٧] ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [الْقَمَرِ: ١] وَقَوْلُهُ: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النَّحْلِ: ١] ، وَقَوْلِهِ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١] ، فَبِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-بِأَمَارَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا، وَأَبَانَ عَنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحَهُ بِمَا لَمْ يُؤْتَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحشَر النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ. وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، حَدَّثَنَا [[في ت: "عن".]] سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ بِأُصْبُعَيْهِ هَكَذَا، بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" [[صحيح البخاري برقم (٤٩٣٦) .]] . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ أَيْ: فَكَيْفَ لِلْكَافِرِينَ بِالتَّذَكُّرِ [[في ت: "التذكير".]] إِذَا جَاءَتْهُمُ الْقِيَامَةُ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ [[في ت: "التذكير".]] ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الْفَجْرِ: ٢٣] ، ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سَبَأٍ: ٥٢] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾ هَذَا إِخْبَارٌ: بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَتَأَتَّى [[في أ: "إلا هو ولا ينافي".]] كَوْنُهُ آمِرًا بِعِلْمِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلي وَجِدِّي، وخَطَئي وعَمْدي، وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي" [[صحيح البخاري برقم (٦٣٩٨) .]] . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" [[صحيح مسلم برقم (٧٦٩) .]] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" [[صحيح البخاري برقم (٦٣٠٧) .]] وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْتُ [[في ت: "عن".]] عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَرْجِسَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَكَلْتُ مَعَهُ مِنْ طَعَامِهِ، فَقُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ [[في ت، م، أ: "استغفر لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ".]] ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَلَكُمْ"، وَقَرَأَ: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى نُغْض كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ -أَوْ: كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ شُعْبَةُ الَّذِي شَكَّ-فَإِذَا هُوَ كَهَيْئَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ الثَّآلِيلُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ [[في ت: "والنسائي وابن ماجه".]] ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، بِهِ [[المسند (٥/٨٢) وصحيح مسلم برقم (٢٣٤٦) والشمائل للترمذي برقم (٢٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٤٩٦) .]] . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَرَّز بْنُ عَوْنٍ [[في م: "محمد بن عوف" وفي هـ: "محمد بن عون". والتصويب من مسند أبي يعلى.]] ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفُورِ، عَنْ أَبِي نَصِيرَة، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَأَكْثِرُوا مِنْهُمَا، فَإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ [[في م: "قال: إنما أهلكت".]] النَّاسَ بِالذُّنُوبِ، وَأَهْلَكُونِي بِـ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَالِاسْتِغْفَارِ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَهْلَكْتُهُمْ بِالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ" [[مسند أبي يعلى (١/١٢٣) ، وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٠٧) : "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف".]] . وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ: "قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي" [[رواه أحمد في مسنده (٣/٢٩) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.]] وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ تَصَرُّفَكُمْ فِي نَهَارِكُمْ وَمُسْتَقَرَّكُمْ فِي لَيْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٦٠] ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ: ٦] . وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ فِي قُبُورِكُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب