الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا ذَكَّرَ بِهِ قَوْمَهُ نعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَآلَاءَهُ لَدَيْهِمْ، فِي جَمْعِهِ لَهُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ أَيْ: كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ قَامَ فِيكُمْ نَبِيٌّ، مِنْ لَدُنْ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَى مَنْ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ [[في أ: "ولذلك".]] كَانُوا، لَا يَزَالُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَ نِقْمَتَهُ، حَتَّى خُتِمُوا بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ [تَعَالَى] [[زيادة من ر.]] إِلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الْمَنْسُوبِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ [[في أ: "عليهما".]] السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ ﷺ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ قَالَ: الْخَادِمُ وَالْمَرْأَةُ وَالْبَيْتُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ أَيْضًا، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهرانيهِم يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ [[في د: "على شرطهما".]] وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. [[الحاكم في المستدرك (٢/٣١١، ٣١٢) .]] وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ الزَّوْجَةُ [[في د: "المرأة".]] وَالْخَادِمُ وَالدَّارُ [[في ر، أ: "المرأة".]] سُمِّيَ مَلِكًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْب، أَنْبَأَنَا أَبُو هَانِئٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا [[في ر: "ألست"، وفي د: "أنا من الفقراء".]] مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ [[في أ: "فقال".]] فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. [[تفسير الطبري (١٠/١٦٣) .]] وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَلِ الْمُلْكُ إِلَّا مَرْكَبٌ وَخَادِمٌ وَدَارٌ؟ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْحَكَمِ، وَمُجَاهِدٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ نَحْوًا مِنْ هَذَا. وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَقَالَ ابْنُ شَوْذَب: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ وَخَادِمٌ، وَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَلِكٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ الْخَدَمَ. وَقَالَ السُّدِّي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ قَالَ: يُمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَة، عَنْ دَرَاج، عَنْ أَبِي الهَيْثَم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ، كُتِب مَلِكًا". [[وفي إسناده ابن لهيعة ودراج ضعيفان ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.]] وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَة أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، [قَالَ] [[زيادة من أ.]] سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمٍ يَقُولُ: ﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ فَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ". وَهَذَا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ. [[تفسير الطبري (١٠/١٦١) .]] وَقَالَ مالك: بيت وخادم وزوجة. وَقَدْ وَرَدَ [[في أ: "روي".]] فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافى [[في: "معافا".]] فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِربه، عِنْدَهُ قُوت يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزت لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا". [[رواه الترمذي في السنن برقم (٢٣٤٦) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٤١٤١) من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري.]] * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِكُمْ، فَكَأَنَّهُمْ [[في أ: "فإنهم".]] كَانُوا أَشْرَفَ [[في ر:"أشراف".]] النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ، مِنَ الْيُونَانِ وَالْقِبْطِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى لَمَّا قَالُوا: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨-١٤٠] وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفُ مِنْهُمْ، وَأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَكْمَلُ شَرِيعَةً، وَأَقْوَمُ مِنْهَاجًا، وَأَكْرَمُ نَبِيًّا، وَأَعْظَمُ مُلْكًا، وَأَغْزَرُ أَرْزَاقًا، وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، وَأَوْسَعُ مَمْلَكَةً، وَأَدُومُ عِزًّا، قَالَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] [[زيادة من ر، وفي أ: "تعالى".]] ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَقَالَ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا وَكَرَمِهَا، عِنْدَ اللَّهِ، عِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ مِنْ [[في أ: "في".]] سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ مَعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ مَنَّ مُوسَى لِقَوْمِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا كَانَ تَعَالَى نَزَّلَهُ [[في أ: "ينزله".]] عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وتَظلَّلهم [[في أ: "ويظللهم".]] مِنَ الْغَمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا كَانَ تَعَالَى يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَاللَّهُ [[في أ: "والله".]] أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَحْرِيضِ، مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِبَنِي [[في ر: "بني".]] إِسْرَائِيلَ عَلَى الْجِهَادِ وَالدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِمْ فِي زَمَانِ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ، لَمَّا ارْتَحَلَ هُوَ وَبَنُوهُ وَأَهْلُهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ أَيَّامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى خَرَجُوا مَعَ مُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [[زيادة من أ.]] فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْعَمَالِقَةِ الْجَبَّارِينَ، قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا وَتَمَلَّكُوهَا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ مُوسَى، عليه السلام، بالدخول إِلَيْهَا، وَبِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وبَشَّرهم بِالنُّصْرَةِ وَالظَّفْرِ عَلَيْهِمْ، فَنَكَلُوا وعَصوْا وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، فَعُوقِبُوا بِالذَّهَابِ فِي التِّيهِ وَالتَّمَادِي فِي سَيْرِهِمْ حَائِرِينَ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ فِيهِ إِلَى مَقْصِدٍ، مُدّة أَرْبَعِينَ سَنَةً، عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] فَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ أَيِ: الْمُطَهَّرَةَ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ قَالَ: هِيَ الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ أَرِيحَا. وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَرِيحَا لَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودُ [[في أ: "المقصودة".]] بِالْفَتْحِ، وَلَا كَانَتْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ قَدِمُوا مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، حِينَ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُمْ فِرْعَوْنَ، [اللَّهُمَّ] [[زيادة من ر، أ.]] إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَرِيحَا أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَهُ -السَّدِّيُّ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ-لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هَذِهِ الْبَلْدَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي طَرَفِ الغَوْر شَرْقِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أَيِ: الَّتِي وَعَدَكُمُوهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَبِيكُمْ إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُ وِرَاثَةُ [[في أ: "ورثه".]] مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ. ﴿وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ أَيْ: وَلَا تَنْكِلُوا عَنِ الْجِهَادِ ﴿فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [[في ر: "وإنا لن ندخلها ما داموا فيها" وهو خطأ.]] أَيِ: اعْتَذَرُوا بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ -الَّتِي أَمَرْتَنَا بِدُخُولِهَا وَقِتَالِ أَهْلِهَا-قَوْمًا جَبَّارِينَ، أَيْ: ذَوِي خلَقٍ هَائِلَةٍ، وَقُوًى شَدِيدَةٍ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ وَلَا مُصَاولتهم، وَلَا يُمْكِنُنَا الدُّخُولُ إِلَيْهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا دَخَلْنَاهَا [[في أ: "منها فإنا داخلون".]] وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّار، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ [[في ر: "أبو سعد".]] قَالَ عِكْرَمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أمرَ مُوسَى أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ. قَالَ: فَسَارَ مُوسَى بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ -وَهِيَ أَرِيحَا-فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ عَيْنًا، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ، لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ. قَالَ: فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ هَيْئَتِهِمْ وجُثَثهم [[في د، ر، أ: "وجسمهم.".]] وعِظَمِهم، فَدَخَلُوا حَائِطًا لِبَعْضِهِمْ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِيَجْتَنِيَ الثِّمَارَ مَنْ حَائِطِهِ، فَجَعَلَ يَجْتَنِي الثِّمَارَ. وَيَنْظُرُ [[في ر، أ: "فنظر".]] إِلَى آثَارِهِمْ، فَتَتَبَّعَهُمْ [[في أ: "فتبعهم".]] فَكُلَّمَا [[في ر: "فلما".]] أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، حتى التقت الِاثْنَيْ عَشَرَ كُلَّهُمْ، فَجَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ الْفَاكِهَةِ، وَذَهَبَ [[في ر: "فذهب"، وفي أ: "ثم ذهب".]] إِلَى مَلِكِهِمْ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: قَدْ رَأَيْتُمْ شَأْنَنَا وَأَمْرَنَا، فَاذْهَبُوا فَأَخْبِرُوا صَاحِبَكُمْ. قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى مُوسَى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم. وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ نَظَرٌ. [[تفسير الطبري (١٠/١٧٣) .]] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: لما نزل مُوسَى وَقَوْمُهُ، بَعَثَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا [[في أ: "نقيبا".]] -وَهُمُ النُّقَبَاءُ الَّذِينَ ذَكَرَ [[في أ: "ذكرهم".]] اللَّهُ، فَبَعَثَهُمْ لِيَأْتُوهُ بِخَبَرِهِمْ، فَسَارُوا، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَجَعَلَهُمْ فِي كِسَائِهِ، فَحَمَلَهُمْ حَتَّى أَتَى بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَنَادَى فِي قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمُ مُوسَى، بَعَثَنَا نَأْتِيهِ [[في ر: "نأتيهم".]] بِخَبَرِكُمْ. فَأَعْطَوْهُمْ حَبَّةً مِنْ عِنَبٍ تَكْفِي الرَّجُلَ، فَقَالُوا لَهُمُ: اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ فَقُولُوا لَهُمُ: اقْدُرُوا قَدْر فَاكِهَتِهِمْ [[في ر: "قدروا قدر فاكهتكم".]] فَلَمَّا أَتَوْهُمْ قَالُوا: يَا مُوسَى، ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَخَذَ عَصًا، فَذَرَعَ [[في أ: "وذرع".]] فِيهَا بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي كَمْ ذَرَعَ، ثُمَّ قَاسَ بِهَا فِي الْأَرْضِ خَمْسِينَ أَوْ خَمْسًا [[في أ: "خمسة".]] وَخَمْسِينَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا طُولُ الْعَمَالِيقِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا أَخْبَارًا مِنْ وَضْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي عَظَمَةِ خَلْقِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ، بِنْتِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَثُلْثُ ذِرَاعٍ، تَحْرِيرُ الْحِسَابِ! وَهَذَا شَيْءٌ يُسْتَحَى مِنْ ذِكْرِهِ. ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ [[في د، أ: "الصحيحين".]] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ [[في ر: "تنقص".]] حَتَّى الْآنَ". [[رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٣٢٦) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٤١) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.]] ثُمَّ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنْية، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِ السَّفِينَةِ، وَأَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُكْبَتِهِ [[في ر، أ: "ركبتيه".]] وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَقَالَ [[في أ: "وقال".]] ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾ [[في ر: "فأنجيناه ومن معه أجمعين" وهو خطأ.]] [الشُّعَرَاءِ: ١١٩-١٢٠] وَقَالَ تَعَالَى: [قَال] [[زيادة من ر.]] ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ﴾ [هُودٍ: ٤٣] وَإِذَا كَانَ ابْنُ نُوحٍ الْكَافِرُ غَرِقَ، فَكَيْفَ يَبْقَى عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ، وَهُوَ كَافِرٌ وَوَلَدُ زِنْيَةٍ؟! هَذَا لَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ. ثُمَّ فِي وُجُودِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: "عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ" نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ أَيْ: فَلَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَرَّضَهُمْ رَجُلَانِ لِلَّهِ عَلَيْهِمَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمَا مِمَّنْ يَخَافُ أَمْرَ اللَّهِ وَيَخْشَى عِقَابَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ﴾ أَيْ: مِمَّنْ لَهُمْ [[في ر: "لهما".]] مَهَابَةٌ وَمَوْضِعٌ مِنَ النَّاسِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ" وَ "كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا"، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطِيَّةُ، والسُّدِّي، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَا ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ: مَتَى تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرَهُ، وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَيَّدَكُمْ وَظَفَّرَكُمْ بِهِمْ، وَدَخَلْتُمُ الْبَلْدَةَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لَكُمْ. فَلَمْ يَنْفَعْ ذَاكَ فِيهِمْ شَيْئًا. ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون﴾ وَهَذَا نُكُولٌ مِنْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَمُخَالَفَةٌ لِرَسُولِهِمْ [[في ر: "لرسوله".]] وَتَخَلُّفٌ عَنْ مُقَاتَلَةِ [[في أ: "مقابلة".]] الْأَعْدَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَكَلُوا عَلَى الْجِهَادِ وَعَزَمُوا عَلَى الِانْصِرَافِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، سَجَدَ مُوسَى وَهَارُونُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قُدام مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِعْظَامًا لِمَا هَمُّوا بِهِ، وشَق "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ" وَ "كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا" ثِيَابَهُمَا وَلَامَا قَوْمَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ رَجَمُوهُمَا. وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ. وَمَا أَحْسَنَ مَا أَجَابَ بِهِ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [[في أ: "رضوان الله عليهم أجمعين".]] يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ اسْتَشَارَهُمْ فِي قِتَالِ النَّفِيرِ، الَّذِينَ جَاءُوا لِمَنْعِ العِير الَّذِي كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا فَاتَ اقْتِنَاصُ الْعِيرِ، وَاقْتَرَبَ مِنْهُمُ النَّفِيرُ، وَهَمَّ فِي جَمْعٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، فِي العُدة [[في أ:" العدد".]] والبَيْض واليَلب، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "أَشِيرُوا عليَّ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ". وَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ مَا عِنْدَ الْأَنْصَارِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُمْهُورَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [[زيادة من أ.]] كَأَنَّكَ تُعرض بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي [[في ر: "والذي".]] بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعرضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فخُضْتَه لخُضناه مَعَكَ، وَمَا تخلَّف مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَه أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبُر فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ [[في أ: "ما يقر".]] بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونَشَّطه [[في ر، أ: "وبسطه".]] ذَلِكَ. [[انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٦١٥) .]] وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويَه: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لما سَارَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالُوا: إذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَتْ [[في أ: "كما قال".]] بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْت أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْك الغمَاد لَاتَّبَعْنَاكَ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُبَيْدَةَ [[في أ: "عبدة".]] بْنِ حُمَيْدٍ، الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عن أبي يعلى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مَعْمَر [[في أ: "معتمر".]] بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، بِهِ. [[المسند (٣/١٠٥) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٤١) ومسند أبي يعلى الموصلي (٦/٤٠٧) .]] وَقَالَ ابْنُ مَرْدُويه: أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنِ الْحَسَنِ [[في أ: "الحكم"، والمثبت من الجرح.]] بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَاسِخٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: "أَلَا تُقَاتِلُونَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا [[في أ: "معكم".]] مُقَاتِلُونَ. [[ورواه أحمد في مسنده (٤/١٨٣) من طريق الحسن بن أيوب به.]] وَكَانَ مِمَّنْ أَجَابَ [[في ر: "أجاد".]] يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأحْمَسِي، عَنْ طَارِقٍ -هُوَ ابْنُ شِهَابٍ-: أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بِدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ اذهب أنت وربك فقاتلا إِنَّا مَعَكُمَا [[في ر، أ: "معكم".]] مُقَاتِلُونَ. هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عن مخارق، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إليَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ [ﷺ] [[زيادة من أ.]] وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ يَسَارِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ. فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُشْرِقُ لِذَلِكَ، وَسَرَّهُ [[في ر، أ: "وسر".]] بِذَلِكَ. [[المسند (١/٣٨٩) .]] وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ "فِي الْمُغَازِي" وَفِي "التَّفْسِيرِ" مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُخَارِقٍ، بِهِ. وَلَفْظُهُ فِي "كِتَابِ التَّفْسِيرِ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بِدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ [[في أ: "ولكنا".]] [نَقُولُ] [[زيادة من أ.]] امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ فَكَأَنَّهُ سَرَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقٍ؛ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ. [[صحيح البخاري برقم (٣٩٥٢، ٤٦٠٩) .]] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الحُدَيبية، حِينَ صَدّ الْمُشْرِكُونَ الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم: "إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عِنْدَ الْبَيْتِ". فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَمَا [[في ر، أ: "إنا".]] وَاللَّهِ لَا نَكُونُ كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. فَلَمَّا سَمِعَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَتَابَعُوا [[في ر، أ: "تبايعوا".]] عَلَى ذَلِكَ. [[تفسير الطبري (١٠/١٨٦) .]] وَهَذَا. إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرَّرَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَئِذٍ كَمَا قَالَهُ يَوْمَ بَدْر. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ يَعْنِي: لَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْقِتَالِ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ دَاعِيًا عَلَيْهِمْ: ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي﴾ أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ فَيَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَيُجِيبُ إِلَى مَا دعوتَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَا وَأَخِي هَارُونُ، ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ قَالَ العَوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: افْرُقِ: افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ [[يقول الأستاذ محمود شاكر حفظه الله: "لعله حبينة بن طريف العكلي". انظر: حاشية تفسير الطبري (١٠/١٨٨) .]] يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَه وبَيْني ... أَشَدَّ مَا فَرقْت بَيْن اثْنَيْنِ ... * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ [قَالَ] [[زيادة من أ.]] فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] [[زيادة من ر، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ نكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ دُخُولِهَا قَدْرًا مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ دَائِمًا لَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، وَفِيهِ كَانَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ، مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بالغَمام وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ الْجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ [[في ر: "تحتمل".]] مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ [[في ر، أ: "اثنا عشر".]] عَيْنًا تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَهُنَاكَ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ، وَشُرِعَتْ لَهُمُ الْأَحْكَامُ، وَعُمِلَتْ قُبَّةُ الْعَهْدِ، وَيُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ الزَّمَانِ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ [[في ر، أ: "يزيد".]] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا [[في ر، هـ: "إنها"، والصواب ما أثبتناه.]] مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ "الْفُتُونِ"، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هَارُونَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ سِنِينَ مَاتَ مُوسَى الْكِلِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ اللَّهُ فِيهِمْ "يُوشَعَ بْنَ نُونٍ" عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَبِيًّا خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى "يُوشِعَ" وَ "كَالِبَ"، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ هَذَا وَقْفٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ مَنْصُوبٌ بقوله: ﴿يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ فلما انقضت الْمُدَّةُ خَرَجَ بِهِمْ "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ" عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَبِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِيلِ الثَّانِي، فَقَصَدَ [[في أ: "يقصد".]] بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا، فَكَانَ فَتْحُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا تَضَيَّفَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، وخَشي دُخُولَ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ قَالَ [[في أ: "فقال".]] "إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عليَّ"، فَحَبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى فَتَحَهَا، وَأَمَرَ اللَّهُ "يُوشَعَ بْنَ نُونٍ" أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أَنْ يَدْخُلُوا بَابَهَا سُجّدا، وَهُمْ يَقُولُونَ: حِطَّةٌ، أَيْ: حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، فَبَدَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَدَخَلُوا [[في أ: "ودخلوا".]] يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: حَبَّة فِي شَعْرة، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ العَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ قَالَ: فَتَاهُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَهَلَكَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي التِّيهِ وَكُلُّ مَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً نَاهَضَهُمْ "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ"، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ مُوسَى، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ لَهُ: "الْيَوْمُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" فهَمُّوا بِافْتِتَاحِهَا، وَدَنَتِ [[في أ: "وقربت".]] الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ، فَخَشِيَ إِنْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ أَنْ يَسْبُتُوا، فَنَادَى الشَّمْسَ: "إِنِّي مَأْمُورٌ وَإِنَّكِ مَأْمُورَةٌ" فَوَقَفَتْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، فَقَرَّبُوهُ إِلَى النَّارِ فَلَمْ تَأْتِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَدَعَا رُءُوسَ الْأَسْبَاطِ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَبَايَعَهُمْ، وَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ، فَقَالَ: الْغُلُولُ عِنْدَكَ، فَأَخْرَجَهُ فَأَخْرَجَ رَأْسَ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، لَهَا عَيْنَانِ مِنْ يَاقُوتٍ، وَأَسْنَانٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ، فَوَضَعَهُ مَعَ الْقُرْبَانِ، فَأَتَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا. وَهَذَا السِّيَاقُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ هُوَ الْعَامِلُ فِي "أَرْبَعِينَ سَنَةً"، وَأَنَّهُمْ مَكَثوا لَا يُدْخِلُونَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ تَائِهُونَ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا يَهْتَدُونَ لِمَقْصِدٍ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجُوا مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَتَحَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ [[في ر: "وأن".]] عَوْجَ بْنَ عُنُقٍ" قَتَلَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ التِّيهِ لِمَا رَهِبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التِّيهِ. قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ "بِلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا" أَعَانَ الْجَبَّارِينَ بِالدُّعَاءِ عَلَى مُوسَى، قَالَ: وَمَا ذَاكَ إِلَّا بَعْدَ التِّيهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التِّيهِ لَا يَخَافُونَ مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ هَذَا اسْتِدْلَالُهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا قَيْس، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عَصَا مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَوَثَبَ فَأَصَابَ كَعْبَ "عَوْجٍ" فَقَتْلَهُ، فَكَانَ جِسْرًا لِأَهْلِ النِّيلِ سَنَةً. [[في أ: "سنين".]] وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ بَشّار، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَوْف البِكالي قَالَ: كَانَ سَرِيرُ "عَوْجٍ" ثَمَانِمِائَةِ [[في ر، أ: "ثلثمائة".]] ذِرَاعٍ، وَكَانَ طُولُ مُوسَى عَشَرَةَ أذرع، وعصاه عشرة أذرع، وَوَثَبَ فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَضَرَبَ "عَوْجًا" فَأَصَابَ كَعْبَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَكَانَ جسْرًا لِلنَّاسِ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ. [[حديث عوج بن عنق حديث طويل باطل، ولا يصح ما ذكر عن أوصافه، وقد تكلم عليه الإمام ابن القيم- رحمه الله- في المنار المنيف (ص٧٦) بما يكفي.]] * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ تَسْلِيَةً لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْهُمْ، أَيْ: لَا تَتَأَسَّفْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فَمَهْمَا [[في أ: "فيما".]] حَكَمْتَ عَلَيْهِمْ، بِهِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ تَقْرِيعَ الْيَهُودِ وَبَيَانَ فَضَائِحِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا، فِيمَا [[في ر:"في الذي".]] أَمَرَهُمْ [[في أ: "أمرهما".]] بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ يَعِدُهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِمْ، هَذَا وَقَدْ شَاهَدُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ لتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ [[في أ: "معاملة".]] أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدهم، فَظَهَرَتْ [[في ر: "وظهرت".]] قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي [[في أ: "من".]] جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي غَيِّهم يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ البُغَضَاء إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٨] فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ، وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، وَيَقْضِي لَهُمْ فِيهَا بِتَأْبِيدِ الْخُلُودِ، وَقَدْ فَعَلَ وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ [[في أ: "في".]] جَمِيعِ الْوُجُودِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب