يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ [[في أ: التابعة".]] إِلَى يَوْمِ القيامة-بِأَنَّهُمْ وَصَفُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، بِأَنَّهُ بَخِيلٌ. كَمَا وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَبَّرُوا عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَنِيّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَة قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿مَغْلُولَةٌ﴾ أَيْ: بَخِيلَةٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ قَالَ: لَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ [[في ر: "منفقة".]] وَلَكِنْ يَقُولُونَ: بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة، وَقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ وَقَرَأَ: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ:٢٩] . يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْهَى [[في أ: "نهى".]] عَنِ الْبُخْلِ وَعَنِ التَّبْذِيرِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وعبَّر عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي فنْحاص الْيَهُودِيِّ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الَّذِي قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ:١٨١] فَضَرَبَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ: شَاسُ [[في أ: "النباس".]] بْنُ قَيْسٍ: إِنَّ رَبَّكَ بَخِيلٌ لَا يُنْفِقُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِمْ مَا قَالُوهُ، وَقَابَلَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَافْتَرَوْهُ وَائْتَفَكُوهُ، فَقَالَ: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ وَهَكَذَا [[في أ: "هكذا".]] وَقَعَ لَهُمْ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبُخْلِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالذِّلَّةِ [[في أ: "المذلة".]] أَمْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [[زيادة من ر، أ.]] ] ﴾ [النِّسَاءِ:٥٣ -٥٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس [[زيادة من ر، أ.]] ] ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ:١١٢] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أَيْ: بَلْ هُوَ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْجَزِيلُ الْعَطَاءِ، الَّذِي مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَهُ خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الَّذِي مَا بِخَلْقِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فِي لَيْلِنَا وَنَهَارِنَا، وَحَضَرِنَا وَسَفَرِنَا، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِنَا، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من ر.]] ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ الْآيَةَ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلأى لَا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاء اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِض مَا فِي يَمِينِهِ" قَالَ: "وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفِي يَدِهِ الْأُخْرَى القبْض، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ": قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، الْبُخَارِيُّ في "التوحيد" عن علي بن الْمَدِينِيِّ، وَمُسْلِمٌ فِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، وَكِلَاهُمَا [[في ر، أ: "كلاهما".]] عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ. [[المسند (٢/٣١٣) وصحيح البخاري برقم (٧٤١٩) وصحيح مسلم برقم (٩٩٣) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ أَيْ: يَكُونُ مَا أَتَاكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ مِنَ النِّعْمَةِ نِقْمَةٌ فِي حَقِّ أَعْدَائِكَ مِنَ الْيَهُودِ وَأَشْبَاهِهِمْ، فَكَمَا يَزْدَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَعِلْمًا نَافِعًا، يَزْدَادُ بِهِ الْكَفَرَةُ الْحَاسِدُونَ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ ﴿طُغْيَانًا﴾ وَهُوَ: الْمُبَالَغَةُ وَالْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ فِي الْأَشْيَاءِ ﴿وَكُفْرًا﴾ أَيْ: تَكْذِيبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ:٤٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ [الْإِسْرَاءِ:٨٢] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ قُلُوبُهُمْ، بَلِ الْعَدَاوَةُ وَاقِعَةٌ بَيْنَ فِرقهم بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى حَقٍّ، وَقَدْ خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ قَالَ: الْخُصُومَاتُ وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ أَيْ: كُلَّمَا عَقَّدُوا أَسْبَابًا يَكِيدُونَكَ بِهَا، وَكُلَّمَا أَبْرَمُوا أُمُورًا يُحَارِبُونَكَ بِهَا يُبْطِلُهَا اللَّهُ وَيَرُدُّ كَيْدَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمُ السَّيِّئُ بِهِمْ.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ أَيْ: مِنْ سَجِيَّتِهِمْ أَنَّهُمْ دَائِمًا يسعوْن فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ أَيْ: لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقَوْا مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ أَيْ: لَأَزَلْنَا عَنْهُمُ الْمَحْذُورَ ولحصّلْناهم [[في ر، أ: "ولحصلنا لهم".]] الْمَقْصُودَ.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. ﴿لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ أَيْ: لأنهم عَمِلُوا بِمَا فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ نَاطِقَةٌ بِتَصْدِيقِهِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ حَتْمًا لَا مَحَالَةَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ [[في ر، أ: "يعني بذلك".]] كَثْرَةَ الرِّزْقِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِتِ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ يَعْنِي: لَأَرْسَلَ [السَّمَاءَ] [[زيادة من أ.]] عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا، ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يَعْنِي: يُخْرِجُ مِنَ الْأَرْضِ بَرَكَاتِهَا.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من ر، أ.]] ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٩٦] ، [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] وَقَالَ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] ﴾ [الرُّومِ:٤١] . [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ ﴿لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ كَد وَلَا تَعَبٍ وَلَا شَقَاءٍ وَلَا عَنَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لَكَانُوا فِي [[في أ: "إلى".]] الْخَيْرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: "هُوَ فِي الْخَيْرِ مِنْ قرَنه [[في أ: "فوقه".]] إِلَى قَدَمِهِ". ثُمَّ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ لِمُخَالَفَةِ أَقْوَالِ السَّلَفِ [["قائل هذه المقالة الفراء في كتاب معاني القرآن (١/٣١٥) " أ. هـ مستفادًا من حاشية تفسير الطبري وقد ذكرها الطبري في تفسيره (١٠/٤٦٤) .]]
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ﴾ حَدِيثَ [[في ر، أ: "حدثنا".]] عَلْقَمَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ". فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟! قَالَ [[في أ: "فقال".]] ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ لَبِيدٍ! إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ [[في أ: "لأري".]] مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوَلَيِسَتِ [[في أ: "وليست".]] التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ" ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ﴾
هَكَذَا أَوْرَدَهُ [[في ر: "رواه"، وفي أ: "أورد".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدِيثًا [[في أ: "هذا الحديث".]] مُعَلَّقًا [[ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٨/٤٣) والبزار في مسنده برقم (٢٣٢) "كشف الأستار" من وجه آخر: من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نفير، عن عوف بن مالك بنحوه.]] مِنْ أَوَّلِ إِسْنَادِهِ، مُرْسَلًا فِي آخِرِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ متصلا موصولا فقال: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيد قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا فَقَالَ: "وَذَاكَ عِنْدَ [[في أ: "عن".]] ذَهَابِ الْعِلْمِ". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ ونُقْرئه أَبْنَاءَنَا، ويُقْرئه أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كنتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ لَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ"
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عن وكيع بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ [[المسند (٤/١٦٠) وسنن ابن ماجة برقم (٤٠٤٨) وقال البوصيري في الزوائد (٣/٢٥٣) : "رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع، قال البخاري في التاريخ الصغير: "لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد".]] وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ:١٥٩] ، وَكَقَوْلِهِ عَنْ أَتْبَاعِ عِيسَى: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ [الْحَدِيدِ:٢٧] . فَجَعَلَ أَعْلَى مَقَامَاتِهِمُ الِاقْتِصَادَ، وَهُوَ [[في ر: "وهي".]] أَوْسَطُ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ رُتْبَةُ السَّابِقَيْنِ [[في ر: "السابقية".]] كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ الْآيَةَ [فَاطِرٍ:٣٢، ٣٣] . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّي، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "تَفَرَّقَتْ أُمَّةُ مُوسَى عَلَى إِحْدَى [[في د: "على اثنتين"، وفي أ: "على أحد".]] وَسَبْعِينَ مِلَّةً، سَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَتَفَرَّقَتْ أُمَّةُ عِيسَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ مِنْهَا فِي النَّارِ، وَتَعْلُو أُمَّتِي عَلَى الْفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا. وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ". قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَمَاعَاتُ الْجَمَاعَاتُ".
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ [[في أ: "زيد".]] كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، تَلَا فِيهِ قُرْآنًا: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ وَتَلَا أَيْضًا: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ:١٨١] يَعْنِي: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ. [[ورواه أبو يعلى في مسنده (٦/٣٤٠) من طريق أبي معشر، عن يعقوب بن زيد به من حديث طويل. وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٥٧) : "فيه أبو معشر نجيح وهو ضعيف".]]
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَبِهَذَا السِّيَاقِ. وحديثُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ إِلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مَرْوي مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
{"ayahs_start":64,"ayahs":["وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۚ وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادࣰاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ","وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَكَفَّرۡنَا عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ","وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُوا۟ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةࣱ مُّقۡتَصِدَةࣱۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ سَاۤءَ مَا یَعۡمَلُونَ"],"ayah":"وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۚ وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادࣰاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ"}