الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ: أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا فَعَلَ [[في أ: "بما عمل".]] وَيَقُولُ: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ أَيْ: مُعْتَدٍ [[في م، أ: "معد".]] مُحْضَرٌ [[في أ: "محص".]] بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كَلَامُ الْمَلَكِ السَّائِقِ يَقُولُ: هَذَا ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ، قَدْ أَحْضَرْتُهُ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْكُمُ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلْقِيَا﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْمُفْرَدَ بِالتَّثْنِيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا حَرَسِيُّ، اضْرِبَا عُنُقَهُ، وَمِمَّا أَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هَذِهِ اللغة قول الشاعر: فإن تزجراني -يا ابن عَفَّانَ-أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَتْرُكَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعًا [[تفسير الطبري (٢٦/١٠٣) .]] وَقِيلَ: بَلْ هِيَ نُونُ التَّأْكِيدِ، سُهِّلَتْ إِلَى الْأَلْفِ. وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ، أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أَيْ: كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، ﴿عَنِيدٌ﴾ : مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ، مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ﴾ أَيْ: لَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَلَا بِرَّ فِيهِ وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ، ﴿مُعْتَدٍ﴾ أَيْ: فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُعْتَدٍ فِي مَنْطِقِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَمْرِهِ. ﴿مُرِيبٍ﴾ أَيْ: شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ، مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ. ﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ أَيْ: أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ عُنُقًا مِنَ النَّارِ يَبْرُزُ لِلْخَلَائِقِ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ ثُمَّ تُلْوَى [[في م، أ: "تنطوي".]] عَلَيْهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -هُوَ ابْنُ هِشَامٍ-حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ فِراس عَنْ عَطِيَّةَ [[في م: "حدثنا شيبان هو ابن هشام عن فراس عن عطية".]] ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ، يَقُولُ: وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [[في م: "حق".]] . فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ، فَتَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ" [[المسند (٣/٤٠) .]] . ﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ أَيْ: يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا، يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ، فَيَقُولُ: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ أَيْ: مَا أَضْلَلْتُهُ، ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ: بَلْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا قَابِلًا لِلْبَاطِلِ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ. كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ يَقُولُ [[في م: "يقوله".]] الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يَخْتَصِمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَقِّ فَيَقُولُ الْإِنْسِيُّ: يَا رَبِّ، هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي. وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ أَيْ: عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ. فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ﴾ أَيْ: عِنْدِي، ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ أَيْ: قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ، وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالْبَرَاهِينُ. ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ، ﴿وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أَيْ: لَسْتُ أُعَذِّبُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب