الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الْقِيَامَةِ: ٣١، ٣٢] ، ﴿وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ قَطَعَهُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدٌ: كَمَثَلِ الْقَوْمِ إِذَا كَانُوا يَحْفِرُونَ بِئْرًا، فَيَجِدُونَ فِي أَثْنَاءِ الْحَفْرِ صَخْرَةً تَمْنَعُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ، فَيَقُولُونَ: "أَكْدَيْنَا"، وَيَتْرُكُونَ الْعَمَلَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾ أَيْ: أَعِنْدَ هَذَا الَّذِي قَدْ أَمْسَكَ يده خشية الإنفاق، وقطع مَعْرُوفَهُ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ أَنَّهُ سَيَنْفَدُ مَا فِي يَدِهِ، حَتَّى قَدْ أَمْسَكَ عَنْ مَعْرُوفِهِ، فَهُوَ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا؟! أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْبَرِّ وَالصِّلَةِ بُخْلًا وَشُحًّا وَهَلَعًا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحديث: "أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا" [[جاء من حديث ابي هريرة وبلال وابن مسعود. أما حديث أبي هريرة: فرواه أبو نعيم في الحلية (٢/٢٨٠) والطبراني في المعجم الكبير (١/٣٤١) من طريقين عن محمد بن سيرين عنه به. وأما حديث بلال: فرواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٥٩) من طريق أبي إسحاق عن مسروق عنه به. وأما حديث ابن مسعود: فرواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠/١٩١) من طريق يحيى بن وثاب عن مسروق عنه به.]] ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٩] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ أَيْ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَفَّى﴾ لِلَّهِ بِالْبَلَاغِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير: ﴿وَفَّى﴾ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَفَّى﴾ طَاعَةَ اللَّهِ، وَأَدَّى رِسَالَتَهُ إِلَى خَلْقِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] فَقَامَ بِجَمِيعِ الْأَوَامِرِ، وَتَرَكَ جَمِيعَ النَّوَاهِي، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَاسْتَحَقَّ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يُقتَدى بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٣] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الحِمْصي، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ قَالَ: "أَتَدْرِي مَا وَفَّى؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ". وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ [[تفسير الطبري (٢٧/٤٣) .]] . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ السّمْناني، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِر، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ [[في م، أ: "يحيى بن سعيد".]] ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَير، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ: "ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، أَكفِكَ آخِرَهُ" [[سنن الترمذي برقم (٤٧٥) وقال: "هذا حديث حسن غريب".]] . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حَدَّثَنَا زَبَّان بْنُ قَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ إِنَّهُ كَانَ يقول كلما أصبح وأمسى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون﴾ [الرُّومِ: ١٧] حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ رِشْدِين بْنِ سَعْدٍ، عَنْ [[في م: "بن".]] زَبَّان، بِهِ [[تفسير الطبري (٢٧/٤٣) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٠/١٩٢) من كلا الطريقين وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١١٧) : "فيه ضعفاء وثقوا". قلت في الأولى: ابن لهيعة وهو ضعيف. وفي الثانية: رشدين بن سعد وهو ضعيف. وفيهما: زيان بن فائد وهو ضعيف.]] . ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ مَا كَانَ أَوْحَاهُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى فَقَالَ: ﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِكُفْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا عَلَيْهَا وِزْرُهَا، لَا يَحْمِلُهُ عَنْهَا أَحَدٌ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [فَاطِرٍ: ١٨] ، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ أَيْ: كَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وِزْرُ غَيْرِهِ، كَذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ مِنَ الْأَجْرِ إلا ما كسب هو لنفسه. ومن وهذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا يَصِلُ إِهْدَاءُ ثَوَابِهَا إِلَى الْمَوْتَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَا كَسْبِهِمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْدُبْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُمَّتَهُ وَلَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِنَصٍّ وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَبَابُ الْقُرُبَاتِ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى النُّصُوصِ، وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَالْآرَاءِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ وَالصَّدَقَةُ فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَى وُصُولِهِمَا، وَمَنْصُوصٌ مِنَ الشَّارِعِ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ" [[صحيح مسلم برقم (١٦٣١) .]] ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَدِّهِ وَعَمَلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" [[رواه أحمد في المسند (٦/٣١) وأبو داود في السنن برقم (٣٥٢٨) والترمذي في السنن برقم (١٣٥٨) والنسائي في السنن (٧/٢٤٠) من حديث عائشة رضي الله عنها/ وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".]] . وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ كَالْوَقْفِ وَنَحْوِهِ هِيَ مِنْ آثَارِ عَمَلِهِ وَوَقْفِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم﴾ [[في م: (وآثارهم وكل شيء أحصيناه) .]] الْآيَةَ [يس: ١٢] . وَالْعِلْمُ الَّذِي نَشَرَهُ فِي النَّاسِ فَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا". * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾ [التَّوْبَةِ: ١٠٥] أَيْ: فَيُخْبِرُكُمْ بِهِ، وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى﴾ أَيِ: الْأَوْفَرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب