يَقُولُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، ﴿وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ وَهُوَ: النَّقْلُ الْمُصَدِّقُ ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ وَهُوَ: الْعَدْلُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلْآرَاءِ السَّقِيمَةِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هُودٍ: ١٧] ، وَقَالَ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الرُّومِ: ٣٠] ، وَقَالَ: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٧] ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَهُوَ: اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا بِهِ، فَإِنَّ الذي جاؤوا بِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ حَقٌّ، كَمَا قَالَ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٥] أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غُرَفَ الْجَنَّاتِ، وَالْمَنَازِلَ الْعَالِيَاتِ، وَالسُّرُرَ الْمَصْفُوفَاتِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٤٣] .
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ أَيْ: وَجَعَلْنَا الْحَدِيدَ رَادِعًا لِمَنْ أَبَى الْحَقَّ وَعَانَدَهُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً تُوحَى إِلَيْهِ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ، وَكُلُّهَا جِدَالٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَانٌ وَإِيضَاحٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَتِبْيَانٌ وَدَلَائِلُ، فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ [[في م: "على من تخلف منهم".]] شَرَعَ اللَّهُ الْهِجْرَةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ بِالسُّيُوفِ، وَضَرْبِ الرِّقَابِ وَالْهَامِ لِمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَكَذَّبَ بِهِ وَعَانَدَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ [[في أ:"المسيب"]] الْجُرَشِيِّ الشَّامِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بُعِثتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ حَتَّى يُعبَد اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وجُعِل رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحي، وَجَعَلَ الذِّلَّةُ والصِّغار عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" [[المسند (٢/٥٠) وسنن أبي داود برقم (٤٠٣١) .]]
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ يَعْنِي: السِّلَاحَ كَالسُّيُوفِ، وَالْحِرَابِ، وَالسِّنَانِ، وَالنِّصَالَ، وَالدُّرُوعِ، وَنَحْوِهَا. ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أَيْ: فِي مَعَايِشِهِمْ كَالسِّكَّةِ وَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ، وَالْمِنْشَارِ، وَالْإِزْمِيلِ، وَالْمِجْرَفَةِ، وَالْآلَاتِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحِرَاثَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَمَا لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِدُونِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ عِلْباء [[في أ: "قال علياء".]] بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمة، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ نَزَلَتْ مَعَ آدَمَ: السَّنْدَانُ [[في أ: "السنداب"]] والكلْبَتان والميقعَة [[في م: "المدقة"، وفي أ: "والمنفعة".]] -يَعْنِي الْمِطْرَقَةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ أَيْ: مَنْ نِيَّتُهُ فِي حَمْلِ السِّلَاحِ نُصْرَةُ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أَيْ: هُوَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، يَنْصُرُ مَنْ نَصَرَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ الْجِهَادَ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
{"ayah":"لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ"}