الباحث القرآني

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفة، عَنِ المنذر ابن جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاة عُراة مُجْتَابي النِّمَارِ -أَوِ: العَبَاء-مُتَقَلِّدي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَر، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لما رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، قَالَ: فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاءِ: ١] . وَقَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ تَصَدَّق رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ-: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ". قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بصُرة كَادَتْ كَفُّهُ تَعجز عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُذْهبة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَن سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنقُص مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِإِسْنَادٍ مِثْلِهِ [[المسند (٤/٣٥٨) وصحيح مسلم برقم (١٠١٧) .]] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَمْرٌ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ تَشْمَلُ فِعْلَ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ أَيْ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَانْظُرُوا مَاذَا ادَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَوْمِ مَعَادِكُمْ وَعَرْضِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَأْكِيدٌ ثَانٍ، ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَيِ: اعْلَمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ [[في م: " وخفيها".]] لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِكُمْ جَلِيلٌ وَلَا حَقِيرٌ. وَقَالَ [[في م: "وقوله".]] ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْ: لَا تَنْسَوْا ذِكْرَ اللَّهِ فَيُنْسِيَكُمُ الْعَمَلَ لِمَصَالِحِ أَنْفُسِكُمُ الَّتِي تَنْفَعُكُمْ فِي مَعَادِكُمْ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، الْهَالِكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْخَاسِرُونَ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: ٩] . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا [أَبُو] [[زيادة من المعجم الكبير للطبري.]] الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حَريز بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ نَمحة قَالَ: كَانَ فِي خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ؟ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْضِيَ الْأَجَلَ وَهُوَ فِي عَمَلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَفْعَلْ، وَلَنْ تَنَالُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. إِنَّ قَوْمًا جَعَلُوا آجَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، فَنَهَاكُمُ اللَّهُ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ؟ قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا فِي أَيَّامِ سَلَفِهِمْ، وَخَلَوْا بِالشِّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ بَنَوُا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ؟ قَدْ صَارُوا تَحْتَ الصَّخْرِ وَالْآبَارِ، هَذَا كِتَابُ اللَّهِ لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ فَاسْتَضِيئُوا مِنْهُ لِيَوْمِ ظُلْمَةٍ، [وَائْتَضِحُوا بِسَنَائِهِ وَبَيَانِهِ] [[زيادة من م، والمعجم الكبير.]] إِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠] ، لَا خَيْرَ فِي قَوْلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَغْلِبُ جَهْلُهُ حِلْمَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ [[المعجم الكبير (١/٦٠) .]] . هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَشَيْخُ حَريز بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ نَمْحَةَ، لَا أَعْرِفُهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيَّ قَدْ حَكَمَ بِأَنَّ شُيُوخَ حَريز كُلَّهُمْ ثِقَاتٌ. وَقَدْ رُوِيَ لِهَذِهِ الْخُطْبَةِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ أَيْ [[بياض في م.]] لَا يَسْتَوِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٢١] ، وَقَالَ ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ﴾ الْآيَةَ [غَافِرٍ: ٥٨] . قَالَ: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: ٢٨] ؟ فِي آيَاتٍ أُخَرَ دَالَّاتٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، يُكْرِمُ الْأَبْرَارَ، وَيُهِينُ الْفُجَّارَ؛ وَلِهَذَا قال هاهنا: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ أَيِ: النَّاجُونَ الْمُسَلَّمُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب