الباحث القرآني

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ [[في م: "عند ربهم".]] جَنَّاتِ النَّعِيمِ، بَيَّنَ مَتَى ذَلِكَ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ، فَقَالَ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ وَالْبَلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ هاهنا: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "يَكشِفُ رَبّنا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" [[صحيح البخاري برقم (٤٩١٩) .]] . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ [[وهو حديث الشفاعة وقد سبق سياقه بطريقه وألفاظه عند تفسير أول سورة الإسراء.]] وَلَهُ أَلْفَاظٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَشْهُورٌ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابن عباس: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ قَالَ: هُوَ يَوْمُ كَرْب وَشِدَّةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -أَوِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، الشَّكُّ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ-: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ قَالَ: عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَنْ سَاقٍ [[البيت في تفسير الطبري (٢٩/٢٤) .]] وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ [[في أ: "الأمر وجده".]] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَوَّلُ [[في م: "هي أشد".]] سَاعَةٍ تَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابن جُرَيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ وَجِدُّهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ المُفظِع مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ يَقُولُ: حِينَ يُكْشَفُ الْأَمْرُ وَتَبْدُو الْأَعْمَالُ. وَكَشْفُهُ دُخُولُ الْآخِرَةِ، وَكَشْفُ الْأَمْرِ عَنْهُ. وَكَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْرَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّة، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عُمَرَ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ رَوْحُ بْنِ جَنَاحٍ، عَنْ مَوْلًى لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ قَالَ: "عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ، يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا". وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، به [[تفسير الطبري (٢٩/٢٧) ومسند أبي يعلى (١٣/٢٦٩) . تنبيه: ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق، وهذا فهم خاطئ؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير فسر هذه الآية بحديث أبي سعيد، رضي الله عنه، ثم ذكر ما قيل في هذه الآية، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه الآية كلامًا بديعًا قال، رحمه الله، في الصواعق المرسلة (١/٢٥٢، ٢٥٣) : "والصحابة متنازعون في تفسير هذه الآية: هل المراد الكشف عن الشدة؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضوع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكرًا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والأصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا". ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تَعَالَى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" القلم: ٤٢: مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيكشف عن ساقة فيخرون له سجدًا". وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشف الشدة عن القوم لا كشف عنها كما قال تعالى: "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" الزخرف: ٥٠، وقال "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" المؤمنون: ٧٥، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة" انتهى نقلا عن التحذير من مختصرات الصابوني، وانظر: عقيدة الحافظ ابن كثير للشيخ عبد الآخر الغنيمي (ص٤٨، ٤٩) والتحذير للشيخ بكر أبو زيد (ص٣٥٠ - ٣٥٣) .]] وفيه رجل مبهم [[في أ: "رجل متهم".]] والله أعلم. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذَا تَجَلَّى الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ أَنْ يسجُد، بَلْ يَعُودُ ظَهْرُ أَحَدِهِمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ خَرّ لِقَفَاهُ، عَكْسَ السُّجُودِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، أَيْ: دَعْنِي وَإِيَّاهُ مِنِّي وَمِنْهُ، أَنَا أَعْلَمُ بِهِ كَيْفَ أَسْتَدْرِجُهُ، وَأَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ وَأَنْظُرُ [[في أ: "وأنظره".]] ثُمَّ آخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَرَامَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِهَانَةٌ، كَمَا قَالَ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥، ٥٦] ، وَقَالَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] . ولهذا قال هاهنا: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أَيْ: وَأُؤَخِّرُهُمْ وَأُنْظِرُهُمْ وَأَمُدُّهُمْ [[في أ: "وأمد لهم".]] وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي وَمَكْرِي بِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أَيْ: عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليُمْلي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْه". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٢] [[صحيح البخاري برقم (٤٦٨٦) وصحيح مسلم برقم (٢٥٨٣) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَةِ "الطُّورِ" [[في م: "في سورة النور".]] [[عند تفسير الآيتين: ٤٠، ٤١.]] وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِلَا أَجْرٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب