الباحث القرآني

يُذَكِّرُهُمُ اللَّهُ [[في ك، م: "تعالى".]] بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِلْقَائِهِ النُّعَاسَ عَلَيْهِمْ، أَمَانًا مِنْ خَوْفِهِمُ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهم وَقِلَّةِ عَدَدهم، وَكَذَلِكَ فَعَلَ تَعَالَى بِهِمْ يَوْمَ أُحُد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٤] . قَالَ أَبُو طَلْحَةَ [[في أ: "قال على بن أبي طلحة".]] كُنْتُ مِمَّنْ أَصَابَهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَقَدْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَلَقَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهِمْ يَمِيدُونَ وَهُمْ تَحْتَ الحَجَف. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْر، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّب، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رأيتُنا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ [[مسند أبي يعلى (١/٢٤٢) ورواه أحمد في مسنده (١/١٢٥) من طريق عبد الرحمن بن مهدي بهذا الإسناد.]] وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي رَزِين، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النُّعَاسُ فِي الرَّأْسِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ. قُلْتُ: أَمَّا النُّعَاسُ فَقَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَمْرُ ذَلِكَ مَشْهُورٌ جِدًّا، وَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ [[في ك، م: "الكريمة".]] إِنَّمَا هِيَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ بَدْرٍ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَيْضًا وَكَأَنَّ ذلك كان سجية لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَأْسِ لِتَكُونَ قُلُوبُهُمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِنَصْرِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشَّرْحِ: ٥، ٦] ؛ وَلِهَذَا [جَاءَ] [[زيادة من م.]] فِي الصَّحِيحِ [[في أ: "الصحيحين".]] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لما كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْعَرِيشِ مَعَ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُمَا يَدْعُوَانِ، أَخَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ سِنَةٌ مِنَ النَّوْمِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مُتَبَسِّمًا فَقَالَ: "أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ" ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الْعَرِيشِ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [الْقَمَرِ: ٤٥] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي: حِينَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ -وَالْمُسْلِمُونَ [[في ك، م، أ: "المشركون".]] بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ [[في أ: "وعصمة".]] وَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمِ الْغَيْظَ، يُوَسْوِسُ بَيْنَهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ! فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، وَانْشَفَّ [[في ك: "وانكشف".]] الرَّمْلُ حِينَ أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ، فَسَارُوا إِلَى الْقَوْمِ وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَة، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبة. وَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا خَرَجُوا لِيَنْصُرُوا الْعِيرَ وَلِيُقَاتِلُوا [[في ك، م: "ويقاتلوا".]] عَنْهَا، نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَغَلَبُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ. فَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الظَّمَأُ، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، حَتَّى تَعَاظَمُوا ذَلِكَ فِي صُدُورِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً حَتَّى سَالَ الْوَادِي، فَشَرِبَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَلَئُوا الْأَسْقِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ [[في م: "الركائبط.]] وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ طَهُورًا، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ رَمْلَةٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَلَيْهَا، فَضَرَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّتْ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَامُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ رُوِي عَنْ قَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ. وَقَدْ رُوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، والزُّهْرِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّهُ طَشٌّ [[في ك، م: "طس".]] أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمَعْرُوفُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ، نَزَلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ هُنَاكَ أَيْ: أَوَّلِ مَاءٍ وَجَدَهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْمَنْزِلُ الَّذِي نَزَلْتَهُ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجَاوِزَهُ، أَوْ مَنْزِلٌ نَزَلْتَهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ؟ فَقَالَ: " بَلْ مَنْزِلٌ نَزَلْتُهُ لِلْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنْ سِرْ بِنَا حَتَّى نَنْزِلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ يَلِي الْقَوْمَ وَنُغَوِّرُ ما وراءه من القلب، وَنَسْتَقِي الْحِيَاضَ فَيَكُونُ لَنَا مَاءٌ وَلَيْسَ لَهُمْ مَاءٌ. فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَفَعَلَ كَذَلِكَ [[في م: "ذلك".]] وَفِي مَغَازِي " الْأُمَوِيِّ" أَنَّ الْحُبَابَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ وَجِبْرِيلُ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ ذَلِكَ الْمَلَكُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ الرَّأْيَ مَا أَشَارَ بِهِ "الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ" [[ورواه الواقدي في المغازي (١/٥٤) إلى هذا الموضع. فقال: "حدثني ابن أبي حبيبة، عن رواد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: نزل جبريل. . فذكره".]] فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ [ﷺ] [[زيادة من ك، م، أ.]] إِلَى جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ [[في ك: "عليهما".]] السَّلَامُ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا كَلُّ الْمَلَائِكَةِ أَعْرِفُهُمْ، وَإِنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ. وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ "الْمُغَازِي"، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ -وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا -فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ [[السيرة النبوية لابن هشام (١/٦٢٠) .]] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ قَبْلَ النُّعَاسِ، فَأَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ، وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ [[في ك، م: "طابت به أنفسهم".]] وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عن جارية، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ [[في ك، م: "طس".]] مِنَ الْمَطَرِ -يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ -فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ والحَجَف نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ. وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ"! فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ، نَادَى: "الصَّلَاةَ، عِبَادَ اللَّهِ"، فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ والْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ أَيْ: مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، وَهُوَ تَطْهِيرُ [[في م: "طهارة".]] الظَّاهِرِ ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ أَيْ: مِنْ وَسْوَسَةٍ أَوْ [[في م: "و".]] خَاطِرٍ سَيِّئٍ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ فَهَذَا زِينَةُ الظَّاهِرِ ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الْإِنْسَانِ: ٢١] أَيْ: مُطَهِّرًا لِمَا كَانَ مِنْ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ أَوْ تَبَاغُضٍ، وَهُوَ زِينَةُ الْبَاطِنِ وَطَهَارَتُهُ. ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ أَيْ: بِالصَّبْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ، وَهُوَ شَجَاعَةُ الْبَاطِنِ، ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ﴾ وَهُوَ شَجَاعَةُ الظَّاهِرِ، واللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَفِيَّةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ، لِيَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ [[في ك: "وهي".]] أَنَّهُ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَبَارَكَ وَتَمَجَّدَ -أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَنْزَلَهُمْ لِنَصْرِ نَبِيِّهِ وَدِينِهِ وَحِزْبِهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، يُوحِي إِلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ يُثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَازَرُوهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَاتَلُوا مَعَهُمْ. وَقِيلَ: كَثَّرُوا سَوَادَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَلَكَ كَانَ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ -يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ -يَقُولُونَ: "وَاللَّهِ لَئِنْ حَمَلُوا عَلَيْنَا لَنَنْكَشِفَنَّ"، فَيُحَدِّثُ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، فَتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ [[في م: "أنفسهم بذلك".]] حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أَيْ: ثَبِّتُوا أَنْتُمُ الْمُسْلِمِينَ [[في ك، م، أ: "المؤمنين".]] وَقَوُّوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، عَنْ أَمْرِي لَكُمْ بِذَلِكَ، سَأُلْقِي الرُّعْبَ وَالْمَذَلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رَسُولِي [[في أ: "رسلي".]] ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ أَيِ: اضْرِبُوا الْهَامَ فَفَلِّقُوهَا، وَاحْتَزُّوا الرِّقَابَ فَقَطِّعُوهَا، وَقَطِّعُوا الْأَطْرَافَ مِنْهُمْ، وَهِيَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى: ﴿فَوْقَ الأعْنَاقِ﴾ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ اضربوا الرؤوس. قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: ﴿فَوْقَ الأعْنَاقِ﴾ أَيْ: عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَهِيَ الرِّقَابُ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٤] . وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لِأُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، إِنَّمَا بُعِثْتُ بِضَرْبِ الرِّقَابِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ" [[رواه الطبري في تفسيره (١٣/٤٢٩) وابن أبي شيبة في المصنف (١٢/٣٩٠) من طريق وكيع بهذا الإسناد.]] وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا قَدْ تَدُلُّ عَلَى ضَرْبِ الرِّقَابِ وَفَلْقِ الْهَامِ. قُلْتُ: وَفِي مَغَازِي "الْأُمَوِيِّ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَ يَمُرُّ بَيْنَ الْقَتْلَى يَوْمَ بَدْرٍ فَيَقُولُ: "نُفَلِّق هَامًا. . . ". فَيَقُولُ أبو بكر: من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما [[البيت للحصين بن الهمام المري، وهو في "الشعر" والشعراء" لابن قتيبة (٢/٦٤٨) .]] فَيَبْتَدِئُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَوَّلِ الْبَيْتِ، وَيَسْتَطْعِمُ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنْشَادَ آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحْسِنُ إِنْشَادَ الشِّعْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس:٦٩] . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوا هُمْ بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ، وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدِ أُحْرِقَ بِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ: وَاضْرِبُوهُ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ عَدُوِّكُمْ كُلَّ طَرَفٍ ومَفْصِل مِنْ أَطْرَافِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ. و "الْبَنَانُ": جَمْعُ بَنَانَةٍ، كَمَا قال الشاعر [[هو العباس بم مرداس السلمى، والبيت في تفسير الطبري (١٣/٤٣١) ولسان العرب مادة (بنن) .]] أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةًوَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ يَعْنِي بِالْبَنَانِ: الْأَطْرَافَ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْبَنَانُ: الْأَطْرَافُ، وَيُقَالُ: كُلُّ مَفْصِل. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ -فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى-: كُلُّ مِفْصَلٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ قَالَ: اضْرِبْ مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْعَيْنَ، وَارْمِهِ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ، فَإِذَا أَخَذْتَهُ حَرُمَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَيْكَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -فَذَكَرَ قِصَّةَ بَدْرٍ إِلَى أَنْ قَالَ-: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا تَقْتُلُوهُمْ قَتْلًا وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا، حَتَّى تُعَرِّفُوهُمُ الَّذِي صَنَعُوا مِنْ طَعْنِهِمْ فِي دِينِكُمْ، وَرَغْبَتِهِمْ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ فَقُتِلَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا وَأُسِرَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْط فَقُتِلَ صَبْرًا، فَوَفَّى ذَلِكَ سَبْعِينَ -يَعْنِي: قَتِيلًا. وَلِذَلِكَ قَالَ [اللَّهُ] [[زيادة من ك، م، أ.]] تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ: خَالَفُوهُمَا فَسَارُوا فِي شَقٍّ، وَتَرَكُوا الشَّرْعَ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ فِي شَقٍّ -وَهُوَ مَأْخُوذٌ أَيْضًا مِنْ شَقِّ الْعَصَا، وَهُوَ جَعْلُهَا فِرْقَتَيْنِ - ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ: هُوَ الطَّالِبُ الْغَالِبُ لِمَنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ أَيْ: ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ فِي الدُّنْيَا، وَاعْلَمُوا أَيْضًا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب