الباحث القرآني

يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ خَيْرٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِذَلِكَ وَأَعَانَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ أَيْ: لَيْسَ بِحَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ قَتَلْتُمْ أَعْدَاءَكُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، أَيْ: بَلْ هُوَ الَّذِي أَظْفَرَكُمْ [بِهِمْ وَنَصَرَكُمْ] [[زيادة من ك، م.]] عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٣] . [[زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".]] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٥] يَعْلِمُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-أَنَّ النَّصْرَ لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَلَا بِلِبْسِ اللَّأْمَةِ وَالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى [[في م: "عنده تعالى".]] كَمَا قَالَ: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٩] . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْقَبْضَةِ مِنَ التُّرَابِ، الَّتِي حَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ [[في أ: "القوم".]] يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ خَرَجَ مِنَ الْعَرِيشِ بَعْدَ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ، فَرَمَاهُمْ بِهَا وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". ثُمَّ أَمَرَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ إِثْرَهَا، فَفَعَلُوا، فَأَوْصَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَصْبَاءَ إِلَى أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نَالَهُ مِنْهَا مَا شَغَلَهُ عَنْ حَالِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ [تعالى] [[زيادة من أ.]] ﴿وَمَارَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أَيْ: هُوَ الَّذِي بَلَّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَكَبَتَهُمْ بِهَا لَا أَنْتَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ -يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ -فَقَالَ: " يَا رَبِّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ، فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا". فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: "خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ" فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدٌ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَقَالَ السُّدِّيّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ بدر: "أعطني حصبا من الأرض". فَنَاوَلَهُ حَصَبًا [[في م: "حصباء".]] عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ رَدِفَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ [[في م: "المسلمون".]] يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْس وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِي قَالَا لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ". فَدَخَلَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ [ﷺ] [[زيادة من م، ك، أ.]] يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فِي رَمْية رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] [[زيادة من م.]] ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِحَصَاةٍ [فِي] [[في ك، م، أ: "فرمى في".]] مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ، وَحَصَاةٍ فِي مَيْسَرَةِ الْقَوْمِ، وَحَصَاةٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ"، فَانْهَزَمُوا. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ [[انظر: تفسير الطبري (١٣/٤٤٣ - ٤٤٥) .]] عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَمْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَة، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، سَمِعْنَا صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ، كَأَنَّهُ صَوْتُ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ، وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ الرَّمْيَةَ، فَانْهَزَمْنَا [[تفسير الطبري (١٣/٤٤٣) .]] غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَاهُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ غَرِيبَانِ جِدًّا. أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ، دَعَا بِقَوْسٍ، فَأَتَى بِقَوْسٍ طَوِيلَةٍ، وَقَالَ: "جيئوني غيرها". فجاؤوا بِقَوْسٍ كَبْدَاءَ، فَرَمَى النَّبِيُّ ﷺ الْحِصْنَ، فَأَقْبَلَ السَّهْمُ يَهْوِي حَتَّى قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [[سقط هذا الأثر والذي يليه من نص الطبري وأثبته المحقق في الهامش (١٣/٤٤٦) .]] وَهَذَا غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ، وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَئِمَّةِ العلم، والله أعلم. وَالثَّانِي: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ والزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا أُنْزِلَتْ [[في م: "نزلت".]] فِي رَمْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ أُبَي بْنَ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ وَهُوَ فِي لَأْمَتِهِ، فَخَدَشَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ، فَجَعَلَ يَتَدَأْدَأُ عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ [بِهَا] [[زيادة من أ.]] بَعْدَ أَيَّامٍ، قَاسَى فِيهَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، مَوْصُولًا بِعَذَابِ الْبَرْزَخِ، الْمُتَّصِلِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ [[المستدرك (٢/٣٢٧) .]] وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ هَذَيْنَ الْإِمَامَيْنِ غَرِيبٌ أَيْضًا جِدًّا، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهَا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ أَيْ: ليُعَرّف الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ، وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ. وَهَكَذَا فَسَّرَ [[في د: "فسره".]] ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: "وَكُلُّ بَلَاءٍ حَسَنٌ أَبْلَانَا". * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: سَمِيعُ الدُّعَاءِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ. * * * وَقَوْلُهُ ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى مَعَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّصْرِ: أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُضْعِفُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، مُصَغِّرًا أَمْرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلُّ مَا لَهُمْ فِي تَبَارٍ [[في م: "شغال".]] وَدَمَارٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب