الباحث القرآني

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قَالَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَدْخُلُ قُلُوبُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُونَ، وَلَا يُصَلُّونَ إِذَا غَابُوا، وَلَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ. ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ يَقُولُ: تَصْدِيقًا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يَقُولُ: لَا يَرْجُونَ غَيْرَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فَرِقَتْ، أَيْ: فَزِعَتْ وَخَافَتْ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ حَقَّ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ، أَيْ: خَافَ مِنْهُ، فَفَعَلَ أَوَامِرَهُ، وَتَرَكَ زَوَاجِرَهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٥] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النَّازِعَاتِ: ٤٠، ٤١] وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ -أَوْ قَالَ: يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ-فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَيجل [[في م: "فيوجل".]] قَلْبُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ قَالَتْ: الْوَجَلُ فِي الْقَلْبِ إِحْرَاقُ [[في أ: "كإحراق".]] السَّعَفَةِ، أَمَا تَجِدُ لَهُ قُشَعْرِيرَةً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ لِي: إِذَا وَجَدْتَ ذَلِكَ فَادْعُ اللَّهَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يُذْهِبُ ذَلِكَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ﴾ [[زيادة من ك.]] كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٤] وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَشْبَاهِهَا، عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ، بَلْ قَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الشَّرْحِ [[في أ: "شرح".]] الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أَيْ: لَا يَرْجُونَ سِوَاهُ، وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَلُوذُونَ إِلَّا بِجَنَابِهِ، وَلَا يَطْلُبُونَ الْحَوَائِجَ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَرْغَبُونَ إِلَّا إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمُلْكِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ. * * * وَقَوْلُهُ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يُنَبِّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، بَعْدَ مَا ذَكَرَ اعْتِقَادَهُمْ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ تَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَيْرِ كُلَّهَا، وَهُوَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا [[في م: "أوقاتها".]] وَوُضُوئِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَسُجُودِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: إِقَامَتُهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا، وَإِسْبَاغُ الطُّهُورِ فِيهَا، وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَالتَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، هَذَا إِقَامَتُهَا. وَالْإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ يَشْمَلُ خَرَاجَ [[في ك، م: "إخراج"]] الزَّكَاةِ، وَسَائِرَ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّهُمْ [[في د: "أحبكم".]] إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِخَلْقِهِ. قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَوَارِيٌّ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، أَوْشَكْتَ أَنْ تُفَارِقَهَا. * * * وَقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ أَي: الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هم المؤمنون حق الإيمان. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ [[في د، م: "زيد".]] السَّكْسَكِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ؛ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: "انْظُرْ مَاذَا [[في م، أ: "ما".]] تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ " فَقَالَ: عَزَفَت نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضاغَوْن فِيهَا، فَقَالَ: "يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ" ثَلَاثًا [[المعجم الكبير (٣/٢٦٦) قال الهيثمي في المجمع (١/٥٧) : "فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".]] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّة فِي قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ إِنَّمَا أُنزلَ [[في د، ك، م: "نزل".]] الْقُرْآنُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ سَيِّدٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ سَادَةٌ، وَفُلَانٌ تَاجِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ تُجَّارٌ، وَفُلَانٌ شَاعِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ شُعَرَاءُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٣] ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أَيْ: يَغْفِرُ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَيَشْكُرُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فَضْلَهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَلَا يَرَى الَّذِي هُوَ أسفلُ أَنَّهُ فُضّل عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ علِّيين لَيَرَاهُمْ مَنْ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ"، قَالُوا [[في أ: "فقالوا".]] يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَنَالُهَا غَيْرُهُمْ؟ فَقَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" [[صحيح البخاري برقم (٣٢٥٦) وصحيح مسلم برقم (٢٨٣١) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.]] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ [وَ] [[زيادة من د، ك، م، أ.]] أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَطية، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وأنْعَمَا" [[المسند (٣/٦١) وسنن أبي داود برقم (٣٩٨٧) وسنن الترمذي برقم (٣٦٥٨) وسنن ابن ماجة برقم (٩٦) .]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب