الباحث القرآني

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي السَّبَبِ الْجَالِبِ لِهَذِهِ "الْكَافِ" فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: شُبِّه بِهِ فِي الصَّلَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، اتِّقَاؤُهُمْ رَبَّهُمْ، وَإِصْلَاحُهُمْ ذَاتَ بَيْنِهُمْ، وَطَاعَتُهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ رَوَى عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَ هَذَا. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ لَمَّا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمَغَانِمِ وَتَشَاحَحْتُمْ فِيهَا فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ مِنْكُمْ، وَجَعَلَهَا إِلَى قَسْمِهِ وَقَسْمِ رَسُولِهِ ﷺ [[في ك، م، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".]] فَقَسَّمَهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ، فَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةَ التَّامَّةَ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ لَمَّا كَرِهْتُمُ الْخُرُوجَ إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ قتال ذات الشوكة -وهم النفير [[في د: "وهو".]] النَّفِيرُ الَّذِينَ خَرَجُوا لِنَصْرِ دِينِهِمْ، وَإِحْرَازِ عِيرِهِمْ -فَكَانَ عَاقِبَةُ، كَرَاهَتِكُمْ لِلْقِتَالِ -بِأَنْ قدَّره لَكُمْ، وجَمَع بِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ -رَشَدَا وَهُدًى، وَنَصْرًا وَفَتْحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ عَلَى كُرْهٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ هُمْ كَارِهُونَ لِلْقِتَالِ، فَهُمْ يُجَادِلُونَكَ فِيهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ، ثُمَّ رَوَى نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ قَالَ: كَذَلِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ. وَقَالَ السُّدِّي: أَنْزَلَ اللَّهُ فِي خُرُوجِهِ [[في د: "خروجهم".]] إِلَى بَدْرٍ وَمُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ لِطَلَبِ الْمُشْرِكِينَ ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ مُجَادَلَةً، كَمَا جَادَلُوكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالُوا: أَخْرَجْتَنَا للعِير، وَلَمْ تُعْلِمْنَا قِتَالًا فَنَسْتَعِدُّ لَهُ. قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ طَالِبًا لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، الَّتِي بَلَغَهُ خَبَرُهَا أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنَ الشَّامِ، فِيهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ لِقُرَيْشٍ فَاسْتَنْهَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُسْلِمِينَ مَنْ خَف مِنْهُمْ، فَخَرَجَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَطَلَبَ نَحْوَ السَّاحِلِ مِنْ عَلَى طَرِيقِ بَدْرٍ، وَعَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي طَلَبِهِ، فَبَعَثَ ضَمْضَم بْنَ عَمْرٍو نَذِيرًا إِلَى مَكَّةَ، فَنَهَضُوا فِي قَرِيبٍ مِنْ أَلْفِ مُقَنَّع، مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَتَيَامَنَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ فَنَجَا، وَجَاءَ النَّفِيرُ فَوَرَدُوا مَاءَ بَدْرٍ، وَجَمَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إعلاء كلمة المسلمين وَنَصْرِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَالتَّفْرِقَةِ [[في د: "التفريق".]] بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْغَرَضُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ النَّفِيرِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَعدهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا النَّفير، وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِيرِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا قِتَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ: إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قَبْلَ هَذِهِ الْعِيرِ لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنمناهَا؟ " فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَنَا: " مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟ " فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ، ثُمَّ قَالَ: " مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟ " فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: إذًا لَا نَقُولُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢٤] قَالَ: فَتَمَنَّيْنَا -مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ-أَنْ لَوْ قُلْنَا كَمَا قَالَ الْمِقْدَادُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ [[رواه الطبراني في المعجم الكبير (٤/١٧٤) .]] وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيْه أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمة بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَدْرٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بالرَّوْحاء، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَون؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فو الذي أَكْرَمَكَ [بِالْحَقِّ] [[زيادة من م.]] وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، وَلَئِنْ سِرْتَ [بِنَا] [[زيادة من أ.]] حَتَّى تَأْتِيَ "بَرْك الْغِمَادِ" مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا مَعَكُمَا مُتَّبِعُونَ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ الْآيَاتِ. وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا شَاوَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَقَالَ له سعد بن عبادة ما قال وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَرَ النَّاسَ فَعَبَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَأَمَرَهُمْ بِالشَّوْكَةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ: فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] ﴾ [[زيادة من أ.]] أَيْ: كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْكَارًا لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ حِينَ ذُكِرُوا لَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّي: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ أَيْ: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ إِلَّا مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْب قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، جَادَلُوهُ فِي الْحَقِّ ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ ﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْآخَرِينَ، هَذِهِ صِفَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لِأَهْلِ الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالَّذِي يَتْلُوهُ خَبَرٌ عَنْهُمْ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَال، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وِثَاقِهِ -ثُمَّ اتَّفَقَا: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ [[المسند (١/٢٢٩) من رواية يحيى بن أبي بكير و (١/٣١٤) من رواية عبد الرزاق.]] إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ [[في ك، م، أ: "يخرجوه".]] وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ أَيْ: يُحِبُّونَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا مَنَعَةَ وَلَا قِتَالَ، تَكُونُ لَهُمْ وَهِيَ الْعِيرُ ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ أَيْ: هُوَ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَهَا الشَّوْكَةُ وَالْقِتَالُ، ليُظَفِّرَكم بِهِمْ وَيُظْهِرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيُظْهِرَ دِينَهُ، وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلَهُ غَالِبًا عَلَى الْأَدْيَانِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَهُوَ الَّذِي دبركم بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ يُحِبُّونَ خِلَافَ ذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] ﴾ [[زيادة من م، أ.]] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ -قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدب الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: "هَذِهِ عيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنْفلكُموها" فَانْتَدَبَ الناسُ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مَنِ الرُّكْبَانِ، تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَم بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ "ذَفرَان"، فَخَرَجَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُريش بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢٤] وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا [[في د، ك، م: "معكم".]] مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى "بَرْك الغِماد" -يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ -لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ" -وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ -وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدد النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامك حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذمَمنا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَجَلْ" قَالَ: فَقَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ. فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبُر عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ [أَنْ] [[زيادة من م.]] يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُكَ، فسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فسُرّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونَشَّطه ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: " سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ" [[رواه الطبري في تفسيره (١٣/٣٩٩) .]] وَرَوَى العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَالَ السُّدِّيُّ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، اخْتَصَرْنَا أَقْوَالَهُمُ اكْتِفَاءً بِسِيَاقِ مُحَمَّدِ بن إسحاق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب