الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَدْرِ [[في أ: "سورة ليلة القدر".]] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدُّخَانِ: ٣] وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ العِزّة مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَظِّما لِشَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، الَّتِي اخْتَصَّهَا بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الحُدّاني [[في أ: "الجذامي".]] عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوّدتَ وجوهَ الْمُؤْمِنِينَ -أَوْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ-فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي، رَحِمَكَ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أريَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ ألف شهر، لا تزيد يوما ولا تنقص يَوْمًا [[سنن الترمذي برقم (٣٣٥٠) .]] . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ -وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ مَازِنَ-رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ طَرِيقِ القاسم [[في أ: "من حديث الحاكم".]] بن الفضل، عن يوسف بن مَازِنَ، بِهِ [[المستدرك (٣/١٧٠) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (٦/٥٠٩) .]] وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ -فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مَشْهُورٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ [قَالَ] [[زيادة من م.]] هُوَ ثِقَةٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنَ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قُلْتُ: وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الحُدّاني [[في أ: "الجذامي".]] إِنَّهُ حَسَبَ مُدّة بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا أَلْفَ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ معاويةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَ سَلّم إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِمْرَةَ سنةَ أَرْبَعِينَ، وَاجْتَمَعَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُتَتَابِعِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا، لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمْ إِلَّا مُدَّةَ دَوْلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَرَمَيْنِ وَالْأَهْوَازِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِ سِنِينَ، لَكِنْ لَمْ تَزُل يَدُهُمْ عَنِ الْإِمْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ، إِلَى أَنِ اسْتَلَبَهُمْ بَنُو الْعَبَّاسِ الْخِلَافَةَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مُدَّتِهِمُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْأَلْفَ شَهْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ الْفَضْلِ أَسْقَطَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى هَذَا فَتَقَارَبَ مَا قَالَهُ الصحة فِي الْحِسَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعف هَذَا الْحَدِيثِ أنَّه سِيقَ لِذَمِّ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ؛ فَإِنَّ تَفْضِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَيَّامِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَم أَيَّامِهِمْ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ جِدًّا، وَالسُّورَةُ الْكَرِيمَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَدْحِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَيْفَ تُمدح بِتَفْضِيلِهَا عَلَى أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي هِيَ مَذْمُومَةٌ، بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: ألَم تَرَ أَنَّ السَّيْفَ ينقُصُ قَدْرُه ... إِذَا قِيل إِنَّ السَّيْفَ أمضَى مِن العَصَا ... وَقَالَ آخَرُ: إِذَا أنتَ فَضَّلتَ امْرَأً ذَا بَرَاعَة ... عَلى نَاقص كَانَ المديحُ منَ النَّقص ... ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ وِلَايَةِ [[في م: "ثم من الذي يفهم من الآية أن".]] الْأَلْفِ شَهْرٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هِيَ أَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةُ، فَكَيْفَ يُحَالُ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا؟! وَالْمِنْبَرُ إِنَّمَا صُنِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَكَارَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [[وانظر: البداية والنهاية (٦/٢٤٣،٢٤٤) فقد توسع أيضا في الكلام على هذا الحديث.]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ -يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ-عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسرائيل لَبس السلاح في سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ، قَالَ: فَعَجب الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ [[ورواه الثعلبي في تفسيره والواحدي في أسباب النزول كما في تخريج الكشاف للزيلعي (٤/٢٥٣) من طريق مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ مرسلا.]] . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَكَّام بْنُ سَلْمٍ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ [[تفسير الطبري (٣٠/١٦٧) .]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عُلَيّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا، لَمْ يَعْصوه طَرْفَةَ عَيْنٍ: فَذَكَرَ أَيُّوبَ، وَزَكَرِيَّا، وحزْقيل بْنَ الْعَجُوزِ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ -قَالَ: فَعَجِبَ [[في أ: "فتعجب".]] أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً، لَمْ يَعْصُوه طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْتَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ. قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسَ مَعَهُ [[وذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/٥٦٩) وعزاه لابن أبي حاتم.]] . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغني عَنْ مُجَاهِدٍ: ليلةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. قَالَ: عَمَلها، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنْ مُجَاهِدٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ: عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ -وَلَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ-هُوَ اختيارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَهُوَ الصَّوَابُ لَا مَا عَدَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ ﷺ: "رِباطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْر مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ [[المسند (١/٦٢) من حديث عثمان، رضي الله عنه.]] وَكَمَا جَاءَ فِي قَاصِدِ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ: "أَنَّهُ يُكتَبُ لَهُ عَمَلُ سَنَةٍ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشَابِهَةِ لِذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلابَة، عَنْ أَبِي هُريرة قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قد جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرم خَيرَها فَقَدْ حُرم". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، بِهِ [[المسند (٢/٢٣٠) وسنن النسائي (٤/١٢٩) .]] . وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ" [[صحيح البخاري برقم (١٩٠١) وصحيح مسلم برقم (٧٦٠) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ أَيْ: يَكْثُرُ تَنزلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُحِيطُونَ بحِلَق الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ: هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "النَّبَأِ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ هِيَ﴾ قَالَ: هِيَ سَالِمَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ [[في أ: "الشياطين".]] أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ، وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ * * * وَقَوْلُهُ: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ قَالَ: تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "مِنْ كُلِّ امْرِئٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ" عَنْ عليٍّ أَثَرًا غَرِيبًا فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُرُورِهِمْ عَلَى الْمُصَلِّينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَحُصُولِ الْبَرَكَةِ لِلْمُصَلِّينَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صُحْبَةِ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْأَرْضِ، وَدُعَائِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [[سيأتي إيراد الأثر عند تفسير آخر السورة.]] . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ -يَعْنِي الْقَطَّانَ-عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "إنها ليلة سابعة -أو: تاسعة -وعشرين، وإن الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عدد الحصى" [[مسند الطيالسي برقم (٢٥٤٥) .]] . وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنِ المِنهَال، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ﴾ قَالَ: لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ هِيَ﴾ يَعْنِي [[في م: "قال".]] هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا، لَيْسَ [[في م: "لا تحدث".]] فِيهَا شَرٌّ إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَيْوَة [[في أ: "حدثنا عبدة".]] بْنُ شُرَيح، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، حَدَّثَنِي بَحير بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي، مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرٍ: تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ، أَوْ خَامِسَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إن أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَة، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ سَجِيَّةٌ، لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ. وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ" [[المسند (٥/٣٢٤) .]] . وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَفِي الْمَتْنِ غَرَابَةٌ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا زَمْعَة، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرام، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَتُصْبِحُ شَمْسُ [[في م: "وتصبح شمسها".]] صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ" [[مسند الطيالسي برقم (٢٦٨٠) وفيه: "صفيقة" بدل: "ضعيفة".]] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مِنْ لَيَالِيهَا لَيْلَةٌ [[في أ: "لياليها وهي ليلة".]] طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ، لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا" [[عزاه إليه صاحب الكنز (٨/٥٤٠) برقم (٢٤٠٦٩) ولم أقع عليه في السنة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (٢١٩٠) من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أبي الزبير، عن جابر بنحوه.]] . فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَوْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُري أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ -أَوْ: مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ-فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [[الموطأ برواية الزهري برقم (٨٨٩) .]] وَقَدْ أسند من وجه آخر. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ "العُدّة" أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى الْخَطَابِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ [وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ جَازِمًا بِهِ عَنِ الْمَذْهَبِ] [[زيادة من م.]] وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِينَ كَمَا هِيَ فِي أُمَّتِنَا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيل سِمَاك الحَنَفي: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مَرْثَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَرْثَد قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: كَيْفَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: "بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ". قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا، فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ؟ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قُلْتُ: فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ". ثُمَّ حَدّثَ رسولُ اللَّهِ ﷺ وحَدّث، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ قُلْتُ: فِي أَيَّ الْعَشْرَيْنِ هِيَ؟ قَالَ: "ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا". ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ، وَقَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، بِهِ [[المسند (٥/١٧١) وسنن النسائي الكبرى برقم (٣٤٢٧) .]] . فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ، وَفِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ [بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ] [[زيادة من أ.]] لَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ مَنْ رَفْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بعدُ مِنْ قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ"؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ رفعُ عِلْم وَقْتِهَا عَيْنًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَخْتَصُّ [[في م: "مختص".]] وُقُوعُهَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، لَا كَمَا رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَتُرْجَى فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: "بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ": حَدَّثَنَا حُمَيد بْنُ زَنْجُويه النَّسَائِيُّ [[في م: "الشامي".]] أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِل رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: "هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ" [[سنن أبي داود برقم (١٣٨٧) .]] . وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ: رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَأَوْقَفَاهُ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُرْجَى [[في م: "أنها ترتجي".]] فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَهُوَ وَجْهٌ [حَكَاهُ] [[زيادة من م، أ.]] الْغَزَالِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّافِعِيُّ جدًا. فَصْلٌ ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي رَزِين. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَقَعُ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَرَوَى فِيهِ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَعَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ، وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السَّابِعَةَ عَشْرَ [[في أ: "في السابع عشر".]] مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٤١] . وَقِيلَ: لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. . وَقِيلَ: لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رسولُ اللَّهِ ﷺ [فِي] [[زيادة من م.]] الْعَشْرِ الأوَل مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: [إِنَّ] [[زيادة من م، أ.]] الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا، وَإِنَّهَا [[في م: "ثم إنها".]] فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفِي وِتْر، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ". وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ، وَمَا نَرى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَة فَمُطرنا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ. وَفِي لَفْظٍ: "فِي صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ [[صحيح مسلم برقم (١١٦٧) .]] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ. وَقِيلَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ [[في أ: "أويس".]] فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" [[صحيح مسلم برقم (١١٦٨) .]] وَهُوَ قَرِيبُ السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الجُرَيري، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ" [[مسند الطيالسي برقم (٢١٦٧) .]] إِسْنَادُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ" [[المسند (٦/١٢) .]] . ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ خَالَفَهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، بن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِلَالٌ -مؤذنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ-أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَالْحُسْنِ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" [[عند تفسير الآية ١٨٥.]] حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ". وَقِيلَ: تَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى". فَسَّره كَثِيرُونَ بِلَيَالِي الْأَوْتَارِ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ. وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْأَشْفَاعِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ". قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ وَعَاصِمًا، عَنْ زِرّ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يُقِم الحَولَ يُصبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. ثُمَّ حَلَفَ. قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالْعَلَامَةِ -أَوْ: بِالْآيَةِ-الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا شُعَاعَ لَهَا، أَعْنِي الشَّمْسَ [[المسند (٥/١٣٠) .]] . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ زِرّ، عَنْ أَبِي، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ -يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي-وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا [[صحيح مسلم برقم (٧٦٢) .]] . وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ [[وانظر هذه الأحاديث وغيرها في: الدر المنثور للسيوطي (٨/٥٧٠-٥٨٠) .]] عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ الجَادّة مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ حَاوَلَ اسْتِخْرَاجَ كَوْنِهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ قَوْلِهِ: ﴿هِيَ﴾ لِأَنَّهَا الْكَلِمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ السُّورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبري، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ [[في أ: "أصحاب رسول الله".]] ﷺ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعُمَرَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ -أَوْ: إِنِّي لَأَظُنُّ-أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ [فَقُلْتُ] [[زيادة من م، أ.]] سَابِعَةٌ تَمْضِي -أَوْ: سَابِعَةٌ تَبْقَى-مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَسَبْعَ أَرْضِينَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الشَّهْرَ يَدُورُ عَلَى سَبْعٍ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ ... لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَزيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ: هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [وَقَضْبًا] ﴾ [[زيادة من المعجم الكبير (١٠/٣٢٢) .]] الْآيَةَ [عَبَسَ: ٢٧، ٢٨] [[المعجم الكبير (١٠/٣٢٢) .]] . وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، ونصٌ [[في م: "ومتن".]] غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عُمرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فِي رَمَضَانَ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَإِنَّهَا فِي وتْر إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، [أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ] [[زيادة من أ، والمسند.]] أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ" [[المسند (٥/٣٢١) .]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -وَهُوَ: أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ-حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ [[في أ: "عن أبي معاوية".]] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي ليلة القدر: "إنها ليلة سابعة أو تاسعة وَعِشْرِينَ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى" [[المسند (٢/٥١٩) .]] . تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا [[في أ: ":أيضا".]] وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عُيَينة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ". يَعْنِي: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ القدر [[سنن الترمذي برقم (٧٩٤) وسنن النسائي الكبرى برقم (٣٤٠٤) .]] . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "إِنَّهَا آخِرُ لَيْلَةٍ" [[لم أقع عليه في المسند، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/٥٧٢) وعزاه لأحمد، ولعلي أستدركه فيما بعد.]] . فَصْلٌ قَالَ [الْإِمَامُ] [[زيادة من أ.]] الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ جَوَابًا لِلسَّائِلِ إِذْ قِيلَ لَهُ: أَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ يَقُولُ: "نَعَمْ". وَإِنَّمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ مُعَيَّنة: لَا تَنْتَقِلُ. نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلابَة أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ [[سنن الترمذي (٣/١٥٩) .]] . وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيمة، وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ -نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتحريها فَلْيَتَحرها فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" [[صحيح البخاري برقم (٢٠١٥) وصحيح مسلم برقم (١١٦٥) .]] . وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" [[صحيح البخاري برقم (٢٠١٧) وصحيح مسلم برقم (١١٦٩) .]] وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. وَيُحْتَجُّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ، بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحى رَجُلَانِ مَنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" [[صحيح البخاري برقم (٢٠٢٣) .]] . وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ، لَمَا حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِعَيْنِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، إِذًا [[في أ: "إذ".]] لَوْ كَانَتْ تَنْتَقِلُ لَمَا عَلِمُوا تَعيُّنها إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ. * * * وَقَوْلُهُ: "فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ": فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الْفَائِدَةَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْعَبْدَ ليُحْرَم الرزقَ بالذَّنْبِ يُصِيبه". * * * وَقَوْلُهُ: "فَرُفِعَتْ" أَيْ: رُفِعَ عِلْمُ تَعينها لَكُمْ، لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ، كَمَا يقوله جَهَلَةُ الشِّيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: "فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ". * * * وَقَوْلُهُ: "وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ" يَعْنِي: عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلابها فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا [[في أ: "إذا عملوا".]] عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ. وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ [[في أ: "الأخير".]] أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اعْتَكَفَ أزواجهُ مِنْ بَعْدِهِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ [[صحيح البخاري برقم (٢٠٢٦) وصحيح مسلم برقم (١١٧٢) .]] . وَلَهُمَا عَنِ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ [[صحيح البخاري برقم (٢٠٢٥) وصحيح مسلم برقم (١١٧١) .]] . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ. أَخْرَجَاهُ [[صحيح البخاري برقم (٢٠٢٤) وصحيح مسلم برقم (١١٧٤) .]] . وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا [[في م: "عنهما".]] كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ [[صحيح مسلم برقم (١١٧٥) .]] . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا: "وَشَدَّ الْمِئْزَرَ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: اعْتِزَالُ النِّسَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيج، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ [[المسند (٦/٦٦) .]] . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ جَمِيعَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى: رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي"؛ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -هُوَ ابْنُ هَارُونَ-حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ [[في م: "الجوهري".]] -وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُريدة، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تحب العفو، فاعف عني" [[المسند (٦/١٨٢) .]] . وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ كَهْمَس بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ علمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُو تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي" [[سنن الترمذي برقم (٣٥١٣) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٨٨) وسنن ابن ماجة برقم (٣٨٥٠) .]] . وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، وَقَالَ: "هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ" [[المستدرك (١/٥٣١) .]] وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرثَد، عَنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيدة عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرأيتَ إِنْ وافقتُ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُو تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي" [[سنن النسائي الكبرى برقم (١٠٧١٣) .]] . ذُكِرَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، يَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ القَطواني، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ -يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ-عَنْ هِلَالٍ أَبِي جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، فَهِيَ عَلَى حَدّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، عُلوها فِي الْجَنَّةِ، وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ [[في م، أ: "عددهم".]] إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَغْصَانِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ. وَمَقَامُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي وَسَطِهَا، فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْر مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْزِلُونَ عَلَى [[في أ: "مع".]] جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ، إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ، يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ، أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ، أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الخبَث، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسكر، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلّق، أَوْ مَبْوَلَةٌ، أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [[في أ: "من الناس".]] إِلَّا صَافَحَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَن اقْشَعَرَّ جلدهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ ودَمعَت عَيْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصَافَحَةِ جِبْرِيلَ. وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، غَفَر اللَّهُ لَهُ بِوَاحِدَةٍ، وَنَجَا مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ. فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، صَادِقًا؟ فَقَالَ كَعْبٌ [[في م: "كعب الأحبار".]] وَهَلْ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ، فَيَبْسُطُ جناحيه - وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ، لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ-فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا، ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا [[في م: "ملكا ملكا".]] فَيَصْعَدُ، فَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَلَا تَزَالُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا ذَلِكَ مُتَحَيِّرَةً، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهَمْ ذَلِكَ، فِي دُعَاءٍ وَرَحْمَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ احْتِسَابًا، وَدُعَاءٍ لِمَنْ حَدث نَفْسَهُ إِنْ عَاشَ إِلَى قَابِلٍ صَامَ رَمَضَانَ لِلَّهِ. فَإِذَا أَمْسَوْا [[في أ: "فإذا استووا".]] دَخَلُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا [حِلَقًا] [[زيادة من م.]] فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ، وَعَنِ امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ [[في م: "عن رجل عن رجل وعن امرأة عن امرأة".]] فَيُحَدِّثُونَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ العامَ؟ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا قَالَ: فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ، وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا، وَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ، وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا، وَفُلَانًا سَاجِدًا، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ [[في أ: "في".]] سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى: يَا سُكَّانِي، حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي. فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أحبُّ مَنْ أحبَّ اللَّهَ. فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعدُون لَهَا، وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. ثُمَّ تُقْبِلُ الجنة على السدرة فتقول: أخبرني بِمَا أَخْبَرَكِ [[في أ: "بما أخبروك".]] سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَتُخْبِرُهَا، قَالَ: فَتَقُولُ الْجَنَّةُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، اللَّهُمَّ عجِّلهم إليَّ، فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ. فَيَغْفِرُ لَهُ، فيسمعُ جبريلُ جميعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، وَمَغْفِرَتُهُ [[في م: "ومغفرة".]] لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ [[في أ: "ويقولون".]] يَا رَبِّ، وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُنَّة وَالْعِبَادَةِ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي، أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَيَرْتَجُّ الْعَرْشُ وما حوله، والحجب والسموات وَمِنْ فِيهِنَّ، تَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ. قَالَ: وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَلَّا يَعْصِيَ اللَّهَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "ليلة القدر" [ولله الحمد والمنة] [[زيادة من م.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب