الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ نشوف ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ الجملة فعل وفاعل ومفعول به، أو لا؟ و(يسألون) فعل، و(الواو) فاعل، و(الكاف) مفعول به، والضمير في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ على من؟ على الصحابة رضي الله عنهم. وقوله: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ (ما) اسم استفهام، و(ذا) اسم موصول، وجملة ﴿يُنْفِقُونَ﴾ صلة الموصول، وعلى هذا فنقول: (ما) اسم استفهام مبتدأ، و(ذا) اسم موصول خبره، و(ينفقون) صلة الموصول، والعائد محذوف، والتقدير: ماذا ينفقونه. هذا إذا لم تلغَ (ذا)، فإن ألغيت صار هناك إعراب آخر، وهو أن نقول: (ماذا) اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعولًا مقدمًا لقوله: ﴿يُنْفِقُونَ﴾، و﴿يُنْفِقُونَ﴾ فعل مضارع، والفاعل الواو، والمفعول هو ما سبق، عرفتم؟ المعنى لا يختلف على الإعرابين. والسؤال سألوا: ما الذي ينفقون وأيش ينفقون؟ هل ينفقون طعامًا، هل ينفقون ثيابًا، هل ينفقون دراهم ماذا ينفقون؟ السؤال هنا عن المنفق لا عن المنفق عليه، أو لا؟ عن المنفق، عن جنسه، أو عن قدره، أو عن الأمرين جميعًا؟ * الطلبة: عن الأمرين. * الشيخ: الظاهر عن الأمرين جميعًا عن الجنس والقدر. قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ هذا الجواب، ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ (ما) هذه موصولة، وإن شئت فاجعلها شرطية، و﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ إن جعلت (ما) موصولة فهي الخبر، وإن جعلتها شرطية فهي جواب الشرط. ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن الله سبحانه وتعالى أجابهم عن ماذا ينفقون فيه، لا عن ماذا ينفقون، عن ماذا ينفقون فيه، يعني قال: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾؛ لأن حقيقة الأمر أن الشأن كل الشأن أن يكون إنفاقك في محله، فأنت لا تهتم ماذا تنفق، اهتم أين تنفق، ولَّا لا؟ بعض الناس ينفق في الشر، وبعض الناس ينفق في شيء لا خير فيه ولا شر، وبعض الناس ينفق في الخير. ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أقول: قد يبدو للإنسان من أول وهلة أن الجواب وقع على غير وفق السؤال؛ لأن السؤال عن أيش؟ ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، فجاء الجواب: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، فهل هذا يكون من باب أسلوب الحكيم المعروف في البلاغة؛ حيث كان هذا الجواب بهذه الصيغة إشارة إلى أنه كان ينبغي أن تسأل على من تنفق؟ هكذا يبدو، ولكنك عند التأمل يتبين لك أن الله عز وجل أجاب عن السؤال جوابًا مطابقًا وزاد عنه أو زاد عليه؛ لأن الجواب عن السؤال يفهم من قوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ من خير، إذن فما الذي ينفق؟ الخير، الخير هو اللي ينفق، وما دام الذي ينفق الخير، فقد يكون الخير في الطعام، وقد يكون الخير في الثياب، وقد يكون الخير في الفرش، وقد يكون الخير في الدراهم، يختلف ولَّا لا؟ لو جئت إلى إنسان مضطر جائع مرة، جائع سيموت إن لم تطعمه وعارٍ ما عليه ثياب أبدًا، فما الخير هنا؟ الثياب ولَّا الطعام؟ الطعام، معلوم ابدأ بالطعام أولًا خير من الثياب، ولو جئت لإنسان لم يصل إلى حد الضرورة إلى الأكل لكنه في ضرورة إلى الثياب؛ لأن الجو بارد وليس عليه إلا ثوب رقيق، فما هو الخير حينئذٍ؟ في الثياب، واضح؟ إذن يكون الله عز وجل قد أجاب عن ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ بقوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، وزاد على الجواب بذكر المنفق عليه في قوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾. قد تقول: إن الزيادة على السؤال إسهاب وتطويل؟ فنقول: إنه إذا كانت الزيادة مما تدعو الحاجة إليه ويقتضيه حال السائل فليست إسهابًا ولا تطويلًا بل هي من تمام الجواب؛ ولهذا لما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن ماء البحر نتوضأ به وأيش قال؟ قال: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»[[أخرجه أبو داود في سننه (٨٣) من حديث أبي هريرة.]] مع أنه ما سئل عن الميتة، ما سئل عن الحوت والسمك، قال: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»؛ لأن راكب البحر يحتاج إلى ذلك. (الوالدين) يعني: الأم والأب، والجدة والجد؛ لأن الجدة والجد وإن لم يكونا والدين مباشرة، فهما والدين لوالديك هما السبب في حصول والديك، ووالداك هما السبب في حصولك أنت، فيشمل الوالدين: الأقربين والأبعدين. وقوله: ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الأقربين جمع أقرب، وهو من كان أدنى من غيره إلى المنفق، فأخ وابن أخ من الأقرب؟ الأخ، وعم وابن عم؟ الأقرب العم، وابن أخ وعم الأقرب؟ ابن الأخ، الأقرب ابن الأخ؛ ولهذا اتفق أهل العلم على أنه لو اجتمع ابن أخ وعم في مسألة فرضية فيقدم ابن الأخ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٦٧٣٧)، ومسلم (١٦١٥ / ٣) من حديث ابن عباس.]]، فاتفق العلماء على أن ابن الأخ أولى من العم. والقربى دون الأقربين هل لهم حق؟ الجواب: نعم؛ لأنهم من الأرحام، لكن الأقرب أولى من الأبعد، وإلا فالكل له حق، والكل يؤجر الإنسان بالإنفاق عليه. وقوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ يشمل الأبناء؟ نعم، يشمل الأبناء، ولكن الإنفاق على الأبناء جاءت السنة بتقييده بالعدل حيث قال النبي ﷺ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢٥٨٧)، ومسلم (١٦٢٣ / ١٣) من حديث النعمان بن بشير.]]، فلا يجوز أن يعطي الذكر ويمنع الأنثى، أو أن يعطي الأنثى ويمنع الذكر، أو أن يعطي واحدًا ويمنع الآخر. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ اليتامى جمع يتيم، ومن اليتيم؟ قال أهل العلم: إنه مشتق من اليتم وهو الانفراد، والمراد به: من مات أبوه ولم يبلغ، يعني: الصغير الذي مات أبوه، هذا هو اليتيم، وإنما أوصى الله به في كثير من الآيات جبرًا لما حصل له من الانكسار بموت الوالد مع صغره؛ ولهذا إذا بلغ استقل بنفسه فلم يكن يتيمًا. وقوله: ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ جمع مسكين، وهو: المعدم الذي ليس عنده مال، وسمي مسكينًا؛ لأن الفقر قد أسكنه وأذله؛ فلهذا يسمى مسكينًا. والمسكين هنا يدخل فيه الفقير؛ لأنه سبق لنا عدة مرات أنه إذا ذكر المسكين وحده دخل فيه الفقير، وإذا ذكر الفقير وحده دخل فيه المسكين، وإذا اجتمعا صار الفقير أشد حاجة من المسكين فيفترقان، وتجده في القرآن أن الفقير قد يأتي وحده والمسكين قد يأتي وحده، والفقير والمسكين قد يجتمعان، ففي قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ [الحشر ٨] يشمل المساكين، وفي قوله: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور ٣٢] يشمل المساكين، وفي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر ١٥] يشمل؟ * طالب: كل الناس، كل الناس حتى الغني. * الشيخ: كل الناس، حتى الغني فهو فقير إلى الله عز وجل؛ ولهذا قيدت: ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله﴾. وفي قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة ٨٩] يدخل فيه الفقير، وكذلك هنا. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ من ابن السبيل؟ قال العلماء: هو المسافر الذي انقطع به السفر، وسمي ابنًا للسبيل، السبيل هو الطريق، سمي ابنًا له؛ لأنه ملازم له، وكل ما لازم شيئًا فهو ابن له؛ ولهذا يقال: ابن الماء لطير الماء الملازم فيه، طير يسمى ابن الماء؛ لأنه ملازم له، وإنما خص الله ابن السبيل؛ لأنه غريب في مكانه قد يحتاج وهو لا يعلم عن حاجته؛ ولهذا فابن السبيل إذا أراد أحد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق فإنه يعطيه. ولكن هل تعطيه إذا سأل أو تعطيه وإن لم يسأل؟ نقول: هذا على وجهين: أحدهما: أن تعلم أنه لا يحتاج كما لو كان غنيًّا تعرف أنه غني، ومر بهذه البلد عابرًا، فهذا لا حاجة إلى أن تعطيه حتى لو أعطيته لرأى أن في ذلك نقيصة له، وآخر تعرف أنه معوز وعليه أثر الإعواز هذا تعطيه ولا شك، وثالث: تشك في أمره، فهذا إن أعطيته بعد سؤاله تقول: هل أنت محتاج؟ فإنه خير، وإلا فلا حرج عليك، وإن أعطيته ظنًّا منك أنه محتاج فأنت على خير. قال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ هذه الجملة الأخيرة شاملة لكل خير، هم سألوا ماذا ينفقون من أجل الخير فعمم الله ﴿مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾، و(ما) هذه شرطية، و﴿تَفْعَلُوا﴾ فعل الشرط؛ ولهذا حذفت منه النون، وجملة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ جواب الشرط. وقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ (من) بيانية بيان لماذا؟ * طالب: للمنفق. * الشيخ: لا لا. * طالب: للإنفاق. * الطلبة: فعل إغراء. * الشيخ: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ بيان لـ(ما)؛ لأنه سبق لنا عدة مرات أن الموصول مبهم، وكذلك أسماء الشرط مبهمة، فـ﴿مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ (من خير) بيان لـ(ما)؛ ولهذا لو أنك حذفت (ما) وقلت: أي خير تفعلوا فإن الله به عليم، استقام الكلام ولَّا لا؟ استقام الكلام، إذن فقوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ بيان لـ(ما). وقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ ما قال: وما تنفقوا من خير؛ ليعم الإنفاق والعمل البدني والقول وكل شيء، كل شيء تفعله من الخير فإن الله به عليم. وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي: بهذا الخير الذي تفعله قليلًا أو كثيرًا، فإن الله يعلمه، سرًّا كان أم علنًا. وما فائدة الجواب هنا مع الشرط؟ إذا قال قائل ﴿مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ما الفائدة من كون الله يخبرنا بأنه عالم به؟ الفائدة هو أن نعلم أنه لا بد أن يجازينا عليه؛ لأن الله عدل لا يظلم، فإذا فعلنا خيرًا فإن الله يعلمه، وسوف أيش؟ يجازينا عليه. لا تقل: إن الجواب لم يطابق الشرط؛ إذ لا فائدة لنا من كون الله يعلمه، نقول: بل لنا فائدة وهو أنه إذا علمنا أن الله يعلمه، فإن الله تعالى عدل لا يضيعه، بل لا بد أن يجازينا عليه. وفيه أيضًا فائدة -كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد- وهي: الإغراء والحث. ثم قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾.. * طالب: شيخ (...) هل هنا جاءت بصيغة (...)؟ * الشيخ: قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ الجار والمجرور في: ﴿بِهِ﴾ متعلق بماذا؟ * طالب: بـ﴿عَلِيمٌ﴾. * الشيخ: بـ﴿عَلِيمٌ﴾، نعم. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ ﴿كُتِبَ﴾ أي: فرض، والكَتْب في الأصل بمعنى الفرض، ومنه قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة ١٨٣]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء ١٠٣]، والكَتْب -كتب الله عز وجل- ينقسم إلى قسمين: كتاب شرعي، وكتاب كوني، الكتاب الكوني لا بد أن يقع ولا يمكن أن يتخلف، والكتاب الشرعي قد يفعله المكتوب عليه وقد لا يفعله، فـ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة ١٨٣] قد يصوم الناس وقد لا يصومون، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ قد يقاتلون وقد لا يقاتلون، لكن ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ [الأنبياء ١٠٥] هذا الكتابة الكونية القدرية هذه لا بد أن تكون، ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة ٢١] كتابة أيش؟ كونية لا بد أن تكون. فالكتابة إذن نوعان: كتابة كونية، وكتابة شرعية، والفرق بينهما: أن الكتابة الكونية لا بد من وقوع المكتوب فيها بخلاف الكتابة الشرعية. الفرق الثاني: أن الكتابة الكونية تتعلق فيما يحبه الله وما لا يحبه، وأما الكتابة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله، لا يمكن أن يفرض الله على عباده ما لا يحبه، بل كل ما فرضه فهو محبوب إليه. وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي قتال هو؟ قتال أعداء الله الكفار، و﴿الْقِتَالُ﴾ مصدر قاتل، وهذه الصيغة الغالب أنها لا تأتي إلا بين اثنين، قاتل وشارك وما أشبهه. وقوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ الضمير في قوله: ﴿وَهُوَ﴾ يعود على القتال وليس يعود على الكتابة؛ فإن المسلمين لا يكرهون ما فرض الله عليهم، لكنهم يكرهون القتال بحسب الطبيعة البشرية، وفرق بين أن نقول: إننا نكره ما فرض الله من القتال وبين أن نقول: إننا نكره القتال، فكراهة القتال أمر طبيعي، فإن الإنسان يكره أن يقاتل أحدًا من الناس فيقتله فيصبح مقتولًا، لكن إذا كان هذا القتال مفروضًا علينا صار محبوبًا إلينا من وجه، ومكروهًا لنا من وجه آخر، فباعتبار أن الله فرضه علينا يكون محبوبًا إلينا، وباعتبار أن النفس تنفر منه وتكرهه يكون مكروهًا إلينا، ومن أجل أن النفس تنفر منه وتكرهه وهو ثقيل عليها صار فيه هذا الأجر العظيم، صار الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران ١٦٩ - ١٧١]. انتبه، إذن هل كراهة القتال تنافي صدق العبادة؟ لا؛ لأن الإنسان يحب هذا القتال من حيث إن الله فرضه عليه؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يصرون أن يقاتلوا، فيردهم أحيانًا لصغرهم فيأسفون، حتى إنه رد في أُحدٍ بعض الصحابة الصغار قال: يا رسول الله، كيف ترده وأنت أذنت لفلان وأنا الآن أستطيع أني أصارعه، قال: أبغي المصارعة خله يصارعني، فصارعه فصرعه فأذن له[[أخرجه الطحاوي في شرح معاني الاثار (٥٠٣٤) من حديث سمرة بن جندب.]]، كل هذا من محبتهم للقتال، كذلك أيضًا عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان أعرج فجاء -يعني لزم بالقتال- وكان أولاده يقولون له: لا تخرج، إن الله قد عذرك، فجاء هو وإياهم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبروه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ -أَوْ إِنِّي أُحِبُّ- أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ »[[أخرجه البيهقي في الكبرى (٩ / ٢٤) من طريق إسحاق بن يسار.]] -الله أكبر- لما رآه النبي عليه الصلاة والسلام متعلقًا بالقتال أذن له وقال لأولاده قولًا -يعني أنه إذا كان يحب أن يخرج فلا تمنعوه- فالحاصل أن الصحابة رضي الله عنهم ما كرهوا القتال بعد أن فرضه الله، بل أحبوه لأن الله فرضه، وكم من أشياء يكرهها الإنسان لولا أن الله تعالى أمر بها فيحبها؛ لأن الله أمر بها، الآن الحج فيه مشقة ولَّا لا؟ من حيث كونه مشقة قد يكرهه الإنسان، لكن إذا علم أن فيه رضا الله أحبه، بذل المال بالزكاة -مثلًا- الإنسان مجبول على حب المال ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر ٢٠]، لكن إذا علم أن في ذلك رضا الله هان عليه، وهذا هو وجه الامتحان في العبادات التي يكلف بها العبد. وقوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ ﴿كُرْهٌ﴾ مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: مكروه لكم، والمصدر بمعنى اسم المفعول يأتي كثيرًا مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق ٦] يعني: حمل بمعنى المحمول الذي في البطن، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨ / ١٨) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.]] أي: مردود. هنا ﴿كُرْهٌ﴾ بمعنى مكروه، والجملة هذه ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ الجملة محلها من الإعراب؟ في محل النصب على الحال، والحال: أن القتال كره لكم، ولكن شوف التسلية من الله عز وجل: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ﴿عَسَى﴾ هذه هنا بمعنى الرجاء، أو بمعنى الإشفاق، أو بمعنى التوقع، أو بمعنى التعليل؛ لأنها أربعة معانٍ.. * طالب: تعليل. * الشيخ: تعليل؟ لا، ما أعرف، تصلح للتعليل؟ لو قلت مثلًا: كل هذا الدواء عسى أن تبرأ؟ هذه للتعليل واضح أو للترجي. لكن هنا ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا﴾ الظاهر -والله أعلم- أقرب شيء أنها للتوقع أو أنها للترجية، ما هو للترجي، الله عز وجل ما يترجى، كل شيء عنده هين، لكن للترجية بمعنى أنه يريد من المخاطب أيش؟ أن يرجو ذلك، أن يرجو هذا، يعني: معناه افعلوا ما هو كره لكم عسى أن يكون خيرًا. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وهذا الذي ذكر الله عز وجل هنا واقع ولَّا لا؟ واقع حتى في الأمور غير التعبدية، أحيانًا يفعل الإنسان شيئًا من الأمور العادية ويقول: ليتني لم أفعل، أو ليت هذا لم يحصل، فإذا العاقبة تكون حميدة وحينئذٍ يكون كره شيئًا وهو خير له. القتال كره لنا لكن عاقبته خير؛ لأن المقاتل كما قال الله عز وجل آمرًا نبيه أن يقول: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة ٥٢] أنه لا بد من حسنى ﴿إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ ما هما؟ إما النصر والظفر، وإما الشهادة، أليس كذلك؟ إذن فالمقاتل في سبيل الله على خير. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ وهذا أيضًا كثيرًا ما يقع يحب الإنسان شيئًا ويلح فيه ثم تكون العاقبة سيئة، والإنسان بمثل هذه الآية الكريمة يسلي نفسه في كل ما يفوته مما يحبه، ويصبر نفسه في كل ما يناله مما يكرهه، كل شيء ينالك وأنت تكرهه، فإنك تصبر نفسك: ﴿عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وكل شيء يفوتك ونفسك يطلبه تسليها فتقول: ﴿عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾، وهذا هو الواقع. ولو أن الإنسان تأمل مجريات حياته اليومية لوجد في ذلك شيئًا كثيرًا. ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ سبحانه وتعالى فهو سبحانه وتعالى لا يقدر للمؤمن شيئًا إلا كان خيرًا له، ولا يوجب على المؤمن شيئًا إلا كان خيرًا له، ولا يحرم عليه شيئًا إلا كان خيرًا له، ولا تقل: ليت هذا لم يحرم، ليت هذا لم يوجب، ليت هذا لم يقع، لا تقل هكذا؛ لأن علمك قاصر، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وأيش يعلم؟ كل شيء حتى المستقبل الذي تظنون أنه شر يعلم الله تعالى ما فيه من الخير. وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ هذا نفي مطلق لعلم الإنسان، فهل نقول: إن هذا النفي المطلق يراد به شيء معين أو نقول: إنه نفي مطلق على الأصل، وإن الأصل في الإنسان عدم العلم على الإطلاق؟ الجواب: هو هذا، كما أن الأصل في صفة الله عز وجل العلم المطلق، فلله العلم المطلق؛ ولهذا قال: ﴿يَعْلَمُ﴾ ولم يقيد هذا العلم بمعلوم ﴿يَعْلَمُ﴾، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ لم يقيد هذا النفي بمعلوم، ما قال: لا تعلمون المستقبل، ولَا: لا تعلمون الحاضر، ولا، ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ فالأصل فينا إذن؟ عدم العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب ٧٢]، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل ٧٨]. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ إعراب الجملة هذه ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ هذا مجرور بـ(عن)، ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ وأيش اللي جرها؟ بدل، من أي أنواع البدل؟ ؎مُطَابِقًا أَوْ بَعْضًا اوْ مَا يَشْتَمِلْ ∗∗∗ عَلَيْهِ يُلْفَى أَوْ كَمَعْطُوفٍ بِبَلْ أي الخمسة؟ اشتمال؛ لأن القتال ليس بعضًا من الشهر، لكن الشهر مشتمل عليه، فهو بدل اشتمال من ﴿الشَّهْرِ﴾. وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ المراد الجنس، ويحتمل أن تكون (أل) للعهد الذهني، ويكون المراد به شهرًا معينًا، فـ(أل) هنا يحتمل أن تكون للجنس فتشمل كل الأشهر الأربعة الحرم، ويحتمل أن تكون للعهد الذهني فيراد بها أيش؟ شهر معين. هل (أل) إذا دخلت على المفرد تكون للجنس فيشمل كل أفراد الجنس؟ نعم، ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر ١ - ٣] هذه (أل) داخلة على مفرد والمراد؟ المراد الجنس، يعني: كل إنسان. فإذن: يسألونك عن كل شهر حرام يمكن هذا، أو: يسألونك عن الشهر الحرام المعين الذي وقعت فيه القضية ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾. والقضية هي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل سرية في السنة الأولى، سرية في جمادي الآخرة، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش وأعطاه كتابًا وقال: «لَا تَفْتَحْ الْكِتَابَ إِلَّا بَعْدَ مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ»[[أخرجه البيهقي في الدلائل (٣ / ١٨) من حديث عروة بن الزبير.]]، فقال: سمعًا وطاعة، فذهب بسريته وهم نحو سبعة أشخاص، فلما مشى مسيرة يومين فتح الكتاب وإذا فيه: أن رسول الله ﷺ يأمرهم أن يسيروا إلى نخلة بين مكة والطائف، وأن يترقبوا أخبار قريش، يترقبوا أخبار قريش وما يحصل منهم، فصادفوا عيرًا لقريش نازلة من الطائف إلى مكة، والعير تكون فيها أطعمة وخضر وما أشبه ذلك، فحصل بينهم قتال بينهم وبين هذه السرية، فقتلوا منهم رجلًا واحدًا، وأسروا رجلين وفر الرابع، لما قتلوا هذا الرجل هم قتلوا هذا الرجل على أنهم في جمادى الآخرة، ولكنه تبين أنه كان في أول يوم من رجب، ورجب أحد الأشهر الحرم الأربعة؛ لأن الأشهر الأربعة الحرم. * طالب: محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. * الشيخ: نعم، المشركون استغلوا هذه المسألة وقالوا: هذا محمد يزعم أنه يطيع الله وأنه يعظم حرمات الله، وهذا أصحابه يقتلون الرجل في الأشهر الحرم، هذه كبيرة ولَّا لا؟ شاع الخبر فضاقت صدور هذه السرية عبد الله بن جحش وأصحابه ضاقت صدورهم لحقهم حرج، فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ وأيش الحكم؟ وليسوا يسألونه هل القتال فيه حرام ولَّا لا؟ لأن هذا معلوم، لكن يسألونه عن هذا القتال فيه ما حكمه، ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾. هكذا ذكر المفسرون، قالوا: لأن القتال في الأشهر الحرم أمر معلوم ما أحد يسأل عنه، ولكن في نفسي شيء لأن لفظ الآية لا يساعده؛ فإن الشهر الحرام إن قلنا: إنه للجنس فظاهر جدًّا أن اللفظ لا يساعد على هذا المعنى. وجه ذلك: إذا قلنا عن الشهر الحرام -يعني عن الأشهر الحرم- قتال فيها، صار السؤال عن هذا القتال المعين؟ لا، وإن قلنا: الشهر الحرام هو الشهر المعين الذي حصل فيه القضية وهو شهر رجب. بقي عندنا كلمة ﴿قِتَالٍ﴾ نكرة، ما هي لو قال: عن الشهر الحرام القتال فيه لكان يساعد على ما ذكر المفسرون، لكننا قد نقول: لما كانت ﴿قِتَالٍ﴾ بدل من الشهر والشهر يراد به شهر معين، فإنه من ضرورة ذلك أن يكون المراد بالقتال؟ القتال في ذلك الشهر المعين؛ ولهذا قال: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي: في الشهر المعين، ولم يسبق قتال في شهر رجب إلا ذلك القتال الذي حصل من هذه السرية. على كل حال الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام إذ سئل أحيانًا يجيب وأحيانًا يتوقف حتى ينزل الوحي، في هذه الآية ماذا كان الجواب من الرسول أو من الله؟ من الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا أجاب الله عز وجل: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ قتال في شهر الحرام كبير لا شك، يعني: من كبائر الذنوب وعظائم الذنوب؛ لأنه انتهاك لحرماتها وهذا محرم، انتهاك حرمات الله من المحرمات، فهذا من كبائر الذنوب ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾. ولكن انظر رحمة الله عز وجل بعباده، شوف التسلية للصحابة ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ هذا تسلية للصحابة، يعني: لو وقع منكم هذه المسألة الكبيرة، فعند الذين يعيرونكم بها ما هو أعظم وأكبر، القتال كبير ما في شك لكن عند هؤلاء الذين يعيرونكم بذلك ما هو أكبر وأعظم، صد عن سبيل الله أعظم، صحيح؟ ولا شك أن المشركين الذين عيروا النبي ﷺ وأصحابه بذلك يصدون عن سبيل الله ويقتلون الذين يلتزمون بسبيل الله ﴿صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وسبيل الله: طريقه الموصل إليه، والطريق الموصل إلى الله شيء واحد وهو شرعه الذي شرعه لعباده، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وإنما سمي الشرع سبيل الله؛ لأنه يوصل إلى الله؛ ولأن الله تعالى هو الذي وضعه، فإضافته إلى الله من ناحيتين: الابتدائية، والنهائية، الابتدائية هو الذي وضعه، والنهائية؟ * الطلبة: يوصل إليه. * الشيخ: يوصل إليه. هل سمى الله السبيل مضافًا إلى غيره؟ نعم، ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء ١١٥]، فأضاف الله السبيل إلى المؤمنين وليس في ذلك تناقض، فهو مضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم سالكوه أو لا؟ مضاف إلى الله باعتبار أنه هو الذي وضعه لعباده، وهذا السبيل ينتهي إلى من؟ إلى الله عز وجل. قال تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ بمن؟ بالله، الكفر بالله أعظم كبيرة يفعلها المرء ولَّا لا؟ نعم. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ المسجد الحرام هنا معترك في إعرابه هل هي معطوفة على الضمير في ﴿بِهِ﴾ ولّا معطوفة على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾؟ * طالب: سبيل الله. * الشيخ: أجبت بسرعة ما شاء الله، أرني كيف ذلك؟ * الطالب: معطوف على سبيل الله. * الشيخ: كيف؟ * الطالب: سبيل الله والمسجد الحرام. * الشيخ: ما يصلح: وكفرٌ به وبالمسجد الحرام؟ ما يصلح؟ * الطالب: يصلح. * الشيخ: يصلح، إذن؟ * الطالب: كلاهما. * الشيخ: كلاهما، وجاءت قولان بن (...). * طالب: (...). * الشيخ: فيه رأيان: الرأي الأول يقولون: إنه معطوف على قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: وصدٌ عن سبيل الله وكفرٌ به وصدٌ عن المسجد الحرام، وهؤلاء يستدلون بقوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا كفر بالله، ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الفتح ٢٥] هذا صد عن أيش؟ عن المسجد الحرام فيكون: وصدٌ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، لكن هذا الرأي لا شك من حيث المعنى قوي، إلا أنهم يعني يلزم عليه أو يرد عليه أن قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أجنبي من قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أجنبي؛ لأن ﴿كُفْرٌ﴾ ما هو معطوف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وأيش معطوف عليه؟ على ﴿صَدٌّ﴾. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ (...) ﴿الْحَرَامِ﴾ معطوف على سبيل، فقد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي وهو قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾؛ لأنه معطوف على اللي ما سبق، وحينئذٍ يمتنع العطف، هذا مقتضى اللغة العربية: أن المعطوف والمعطوف عليه لا يفصل بينهما بأجنبي وهنا ﴿كُفْرٌ بِهِ﴾ أجنبي، وأيش معنى أجنبي؟ يعني: ليس معطوفًا على ما عطف عليه ما بعده، إنما معطوف على شيء سابق عليه، واضح؟ طيب، لكنه كما قلته قبل قليل: المعنى يؤيده، لكن السياق من حيث السياق العربي يمنعه؛ لأنه أجنبي. إذن يترجح القول الثاني وهو أن قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ معطوف على الضمير في ﴿بِهِ﴾: وكفرٌ به وبالمسجد الحرام، ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: بالله وبالمسجد الحرام، وعلى هذا فيكون هنا معطوفًا على الضمير في ﴿بِهِ﴾. ولكن يرد على هذا القول إشكالان ما هو إشكال واحد، الإشكال الأول: أننا عطفنا على الضمير المتصل بدون إعادة الجار، والمعروف عند أكثر النحويين أنه لا يجوز أن تعطف على الضمير المتصل المجرور إلا بإعادة الجار، وابن مالك أشار إلى هذا في أي بيت؟ ؎وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى ∗∗∗ ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا ثم قال: ؎وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى ∗∗∗ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَاوعلى هذا فنقول: ابن مالك رحمه الله لا يرى وجوب إعادة حرف الجر إذا عطف على الضمير المجرور المتصل، زال الإشكال هذا، زال الإشكال الأول بماذا؟ بأن وجوب إعادة الجار إذا عطف على ضمير خفض متصل، هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم في النحو وابن مالك ممن يرى أنه لا يجب إعادة الجار، إذن زال الإشكال الأول. الإشكال الثاني: قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قد لا تتصور وأيش معنى الكفر بالمسجد الحرام؟ الصد عن المسجد الحرام واضح، لكن الكفر بالمسجد الحرام وأيش معناه؟ نقول: الكفر به ظاهر، الذي يجعل الأصنام في جوف الكعبة، كافر بالمسجد الحرام ولَّا معظم له؟ كافر بالمسجد الحرام؛ لأنه ما آمن بحرمته وعظمته، بل هذا من أعظم الإهانة لبيت الله عز وجل أن تجعل الأصنام في جوف الكعبة، فهم كافرون بالمسجد الحرام، وعلى هذا يزول الإشكال الثاني. فإن قلت: الإشكال في المعنى الأول وهو أن يكون قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ معطوفًا على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الإشكال اللي أوردنا هو أن العطف على قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيه إشكال من حيث إنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي، لكن أجاب الذين يختارون هذا القول، أجابوا عن ذلك وقالوا: إن قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ﴿صَدٌّ﴾، فيكون ليس أجنبيًّا، يكون غير أجنبي، يكون ليس بأجنبي من ﴿صَدٌّ﴾، وعلى هذا فتكون كأن الآية: وصد وكفر، فيكون ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ﴿صَدٌّ﴾، فكأنه منه فليس بأجنبي، وحينئذٍ يزول الإشكال. إذن ما خلاصة هذا البحث؟ خلاصة هذا البحث أنه يجوز في قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وجهان: الوجه الأول: أن يكون معطوفًا على قوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: وصد عن المسجد الحرام. والوجه الثاني: أن يكون معطوفًا على الضمير في قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: وبالمسجد الحرام، والله أعلم. (...) أن فيه تعظيمًا لشأن الشهر، كأن المسؤول عنه هو الشهر نفسه يعني: عن شأن الشهر الحرام، وهل هو ذو شأن عظيم. ثم قال: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ الذي هو المقصود هذا هو الفائدة من كون يأتي ﴿الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أولًا ثم يبدل منه ﴿قِتَالٍ﴾، وإلا لكان السؤال: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام. قوله تعالى: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾.. قوله: ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ المسجد الحرام هو المسجد الذي فيه الكعبة هذا هو المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء ١] وقد أسري به من الحجر؛ ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة ٢٨]، وقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا﴾ يدل على أن المراد بالمسجد الحرام هو أيش؟ نفس المسجد الذي فيه الكعبة؛ لأنه بالاتفاق أنه يجوز للمشرك أن يصل إلى حدود الحرم حتى لا يبقى بينه وبين الحرم إلا أنملة، ولو كان المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم لكان المشرك لا يجوز أن يقرب أيش؟ حدود الحرم والأمر ليس كذلك. * طالب: يقال: إنه أسري من بيت أم هانئ؟ * الشيخ: لا، الصحيح من الحجر، لكن بعضهم الذين صححوا الروايتين قالوا: كان نائمًا في بيت أم هانئ ثم استيقظ وذهب إلى هناك وأسري به من هناك. وقوله: ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ (الحرام) فَعَال من الحُرمة أو من التحريم، يعني: المسجد ذي الحرمة والتعظيم، ولا يخفى على أحد حرمة المسجد الحرام، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام خطب في عام الفتح وقال: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَةَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٣١٣) من حديث مجاهد، ومسلم (١٣٦٠ / ٤٥٤) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم، واللفظ للبخاري.]]، وأخبر أنها محرمة منذ خلق الله السماوات والأرض لا يعضض شوكها ولا ينفر صيدها ولا يحل القتال فيها، حتى إن الرسول ﷺ قال: «إِنْ تَرَخَّصَ أَحَدٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٠٤)، ومسلم (١٣٥٤ / ٤٤٦) من حديث أبي شريح العدوي.]]، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، ما أذن بالقتال في مكة لأحد إلا للرسول ﷺ، وليس إذنًا عامًّا بل إذنًا مقيدًا قال: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٨٣٢) ومسلم (١٣٥٤ / ٤٤٦) من حديث أبي شريح العدوي بلفظ: «أذِنَ لِرسُولِهِ».]]، وهذه القصة فيها تمثيل للحكم الذي نسخ مرتين: كانت بالأول حرامًا ثم أحلت، هذا النسخ الأول، ثم حرمت، هذا النسخ الثاني، والله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت، فهذه من عظمة مكة. ومن عظمة مكة: أنه لا يصح إسلام أحد حتى يحج البيت إذا كان قادرًا، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران ٩٧]. ومن حرمتها: أنه لا يدخلها أحد إلا محرمًا؛ إما وجوبًا وإما استحبابًا، وجوبَا عند كثير من أهل العلم أنك ما تدخل مكة إلا محرمًا ولو كنت قد أديت الواجب، أو استحبابًا على القول الراجح أن الإنسان إذا أدى الواجب لم تجب عليه العمرة، ولو كان قطيع العهد بمكة المكرمة أو بمكة على الأصح؛ لأن (المكرمة) وصف حديث. ومن حرمة مكة: أن الناس كلهم يتجهون إليها في صلاتهم ولَّا لا؟ كل الناس يتجهون إلى الكعبة ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة ١٤٤]. ومن حرمتها: أن من وجد فيها لقطة لا يحل له أخذها إلا إذا كان يريد إنشادها أبد الآبدين، لو تجد فيها لقطة ما تأخذها، اللي غيرها لك أن تأخذها لتنشدها لمدة سنة ثم تكون ملكًا لك، أما مكة فلا تأخذها إلا إن كنت تبغي تنشد عليها أبد الآبدين فخذها، ولكن من بيأخذها وهو لازم ينشد عليها أبد الآبدين، حتى لو مات يوصي من بعده أن ينشدوا عنها، وإذا ماتوا ينشدون؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢٤٣٤)، ومسلم (١٣٥٥ / ٤٤٧) من حديث أبي هريرة.]] إلا لمنشد دائمًا، والحكمة في هذا أنك إذا علمت أنك إذا أخذت هذه اللقطة يلزمك أن تنشد عنها أبد الآبدين هل تأخذها؟ ما تأخذها، أنت في عافية إذا لم تأخذها، أنت ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع، فصاحبها إذا فقدها رجع إليها فوجدها. ولها خصائص كثيرة ذكرها الذين صنفوا في هذا الباب في تاريخ مكة كالأزرقي وغيره، ولكن كل هذا مأخوذ من وصف الله تعالى لهذا المسجد بالحرام. * طالب: نقول: لو أخذ اللقطة وأعطاها للشرطة خوفًا من أن يأخذها سارق فهل يجوز؟ * الشيخ: هذه إذا كان هناك من جهة ولاة الأمور، من جهة ولاة الأمور من يتلقى هذه الأشياء فإنها تبرأ ذمته، إي نعم. قال: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ شوف الكلام ﴿إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ من أهل المسجد الحرام؟ الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون هم أهله، كما قال الله تعالى في سورة الأنفال عن المشركين: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال ٣٤]، أهل المسجد الحرام هم النبي عليه الصلاة والسلام ومن اتبعه؛ ولهذا قال: ﴿إِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ وهي حجة ظاهرة على أن هؤلاء الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه ليسوا أهلًا للمسجد الحرام. إذن هذا يشبه مانعًا من موانع الإرث مر عليكم وهو أن الكافر لا يرث المسلم، وقال الله لنوح عن ابنه ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود ٤٦]، كذلك الذين في مكة وليسوا مسلمين ليسوا من أهل مكة، ليسوا أهلًا للمسجد الحرام، أهله المؤمنون. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أكبر عند الله، وإن كانت في نفوس بعض الناس أهون من القتل في الشهر الحرام، لكنها عند الله أكبر، شوف الآن: صد عن سبيل الله، وكفر بالله، وصد عن المسجد الحرام، أو كفر بالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، أربع مسائل عظيمة جدًّا، هذه أكبر عند الله منين؟ من القتل في الشهر الحرام. شيء آخر: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ الفتنة يعني: الشرك، ممكن أن نقول: إنها الفتنة صد الناس، إن الفتنة صد الناس عن الدين، لكنها قد سبقت في قوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إذن فالفتنة هي الشرك، يعني الفتنة -وهي الشرك- أعظم من القتل، شرك بالله أعظم من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أعظم الظلم وأعظمه: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٤٧٧)، ومسلم (٥٦ / ١٤١) من حديث عبد الله بن مسعود.]]، هذا أعظم الذنب وأظلم الظلم. ﴿الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ هل جاءت الفتنة في القرآن بمعنى الشرك؟ الجواب: نعم، مثل؟ * طالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ [البروج ١٠]. * الشيخ: لا، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة ١٩٣] أو لا تكون فتنة هذه صد عن سبيل الله أيضًا، تحتمل، لكن قال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ [النور ٦٣]، قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قول الرسول ﷺ أن يقع في قلبه من الشرك من الزيغ فيهلك. نعم، الفتنة أكبر من القتل، فالشرك أعظم من قتل النفس، وأعظم من قتل النفس في الأشهر الحرم، كل شيء محترم من زمان أو مكان أو شخص، فإنما هو من تعظيم الله، الأشياء المخلوقة ليس لها حرمة في حد ذاتها، لكنها حرمة من جهة اتصالها بالله عز وجل، فالأشهر الحرم من الذي جعلها محترمة؟ الله، إذن تحريمها من تعظيم الله، فيكون الشرك بالله أعظم من القتل في الأشهر الحرم. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ -الله أكبر- الكفار حريصون على أن يخرجونا من ديننا حتى وإن عرضوا رقابهم لسيوفنا، شوف ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ ولا يزال هذه تفيد أيش؟ الاستمرار، ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ والقتال هو: أن يلاقي كل واحد الآخر بالسيف ليقتله، يعرضون رقابهم لقصف رؤوسهم حرصًا على أن يردونا عن ديننا. ولكن شوف كلمة ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ تفيد أنهم لن يستطيعوا (إن)، ولكن ما هو حاصل، هذا لا يحصل إن شاء الله تعالى، لكن هم حريصون غاية الحرص على ردنا عن ديننا، حتى كانوا يعذبون الذين يسلمون في عهد من..، صغارهم يعذبونهم في حر الرمضاء في الشمس يلقون عليهم الصخرات الحارة لعلهم يرجعون عن دينهم، ولكن لا يرجعون هم ثابتون صامدون، هؤلاء المشركون لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا، وهل هذا أيضًا صفة لليهود والنصارى بالنسبة لنا؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: نعم، ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ [البقرة ١٠٩] هذا في أهل الكتاب، في المنافقين؟ نعم كما قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء ٨٩]، يعني إذن جميع أصناف الكفرة من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين كلهم يودون أن المسلمين يرتدون على أدبارهم ويكفرون بالله عز وجل، كل إنسان يود شيئًا، فإنه بمقتضى الطبيعة البشرية يحاول أيش؟ أن يتحقق ذلك الشيء بكل وسيلة؛ إما بالسلاح كما في قوله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾، وإما بالإغراء والخداع كما في حال المنافقين وغيرهم، وهم قد لا يبوحون بما في نفوسهم، لكنهم شياطين الإنس يأتون إلى المسلمين بأمور يتفتت بها دينهم حتى يكون كنافقاء اليربوع لو سقط عليه بيضة لخرقته ولم تنكسر البيضة، هم قد لا يقول لك: تعال اكفر، لكن يدخلون عليك أشياء أشياء من المعاصي، المعاصي تفتت الإيمان، تفتته، تنقضه شيئًا فشيئًا حتى يزول بالكلية؛ ولهذا قال أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر، وأيش معنى بريده؟ التي ترسل إليه، ينزل الإنسان إليها دركًا دركًا حتى يهوي في النار -والعياذ بالله- فالمعاصي لا تظنوا المسألة هينة بنسبة المعاصي، المعاصي تؤثر على القلب، وانظر إلى قول الله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين ١٣، ١٤] ران على القلب ما كان يعمل أعماله السيئة حتى صار عن أعظم الكلام وأفضل الذكر يقول عنه: إنه أساطير الأولين، يقول ذلك إما للحيلولة بينه وبين الوصول إلى عظمة هذا القرآن، وإما لجحود عظمة هذا القرآن. وعلى كل حال فأهل الكفر من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين كلهم يودون منا أن نرتد عن ديننا، يودون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما في قيام الدين الإسلامي من القضاء عليهم، الدين الإسلامي لو قام حقًّا ما بقي على وجه الأرض أحد من الكفار؛ ولهذا هرقل لما أخبره أبو سفيان بما كان للرسول عليه الصلاة والسلام من الصفات والأخلاق والدين الذي يدعو إليه وأيش قال؟ قال: «لئن كان ما تقول حقًّا، فسيملك ما تحت قدمي هاتين»[[أخرجه البخاري (٧) من حديث أبي سفيان بن حرب.]]، في ذلك الوقت هو ملك، ملك من؟ الروم، الروم والفرس في ذلك الوقت مثل روسيا وأمريكا في وقتنا هذا، أعظم دولتين، هذا الملك يقول ذلك وهو على مملكته وفي عاصمته، ويقول ذلك وهو يؤمن بأن ملكه سيزول بدين محمد ﷺ، فرؤساء الكفر اليوم كرؤساء الكفر بالأمس يعرفون أن الدين الإسلامي لو قام ما أبقى لهم باقية؛ ولذلك يحاولون بكل طريق وبكل وسيلة أن يقضوا على الدين الإسلامي، وذلك لصد أهله عنه بشتى الوسائل، والحقيقة أننا انخدعنا بهم، انخدع المسلمون ولا حاجة إلى ذكر الأشياء التي انخدع بها المسلمون من أجلهم حتى ضاعوا، ولكن الأمل بالله عز وجل أن الله سيعيد لهذا الدين مجده على أيدي الشباب الصالحين مع العلم وغزارة العلم؛ لأن الداعية مهما كان قويًّا في الدعوية إذا لم يكن له علم فإنه يفشل، إذا لم يكن هناك علم يعتمد عليه الإنسان فشل، وكيف يدعو إلى الله عز وجل بدون علم، إذا دعا إلى الله بدون علم أدنى واحد من الناس يقف أمامه يوقفه يورد عليه الشبهة فيقف، وإذا وقف الداعية فالنكبة عظيمة، انهزام، انهزام شديد؛ ولهذا لا أرى أن الإنسان يدعو إلا بما كان يعلم، بما كان يعلم خاصة، وإلا فإن العاقبة تكون وخيمة. قال الله تعالى: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ شوف الجملة الشرطية هذه تقيد ما سبق، يعني أنهم لن يستطيعوا ذلك، لكن هم لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم. ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ﴿مَنْ يَرْتَدِدْ﴾ هذه البنية لهذه الكلمة تشكل إذا قارنتها بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة ٥٤] كيف قال: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ﴾ وهنا قال: ﴿مَنْ يَرْتَدِدْ﴾؟ نقول: لا إشكال فيها، ليس فيه إشكال؛ لأن الإدغام في قوله: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ﴾ إدغام جائز لا واجب، الإدغام جائز ليس بواجب، وعلى هذا فيجوز إذا جزمت (يرتد) يجوز أن تقول: يرتد، وأن تقول يرتدد، وسيأتينا إن شاء الله تعالى في الألفية في باب الإدغام حكم ذلك. وقوله: ﴿مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ شوف ﴿عَنْ دِينِهِ﴾ ما هو الدين؟ الدين يطلق على معنيين: أحدهما: العمل الذي أراد صاحبه عليه المكافئة، والثاني: المكافئة على ذلك العمل. الدين يطلق على معنيين: أحدهما: العمل، والثاني: المكافئة على ذلك العمل. فمن الأول الذي يراد به العمل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة ٣] المراد بالدين ما هو؟ العمل، كذا؟ ومن الثاني قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤]، وقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار ١٧ - ١٩] فالمراد بالدين: الجزاء على العمل. وهنا ﴿مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ من أي المعنيين؟ العمل، وتأمل قوله: ﴿عَنْ دِينِهِ﴾ حيث أضافه إلى الدائن؛ لأن إضافته إليه توجب إغراءه به، يعني: هذا دينك، هل الإنسان يفرط في دينه؟ لا، كما لو قلت: هذا مالُك، هذا ولدك، هذه سيارتك، إضافتها إلى نفسك توجب الإغراء بها، وشدة المحافظة عليها لأنه؟ دينُك، منسوب لك، فهو أبلغ مما لو قال: ومن يرتدد منكم عن الدين، لكنه قال: ﴿دِينِهِ﴾ ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾، كما في قوله أيضًا في الأول: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ يعني: فاحتفظوا به؛ لأنه لكم ومنسوب إليكم. ولهذا من تبرأ من هذا الدين وشتمه -والعياذ بالله- ولعنه فليس من أهله، فسب الدين كفر، سب دين الإسلام كفر بدين الإسلام؛ لأن الإنسان الذي يعتنق دين الإسلام ويعتقده دينًا ما يمكن يسبه أبدًا، هو دينه رأس ماله. وقوله: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ هنا الفاء عاطفة و(يمت) معطوفة على ﴿يَرْتَدِدْ﴾ نعم ﴿يَرْتَدِدْ﴾، وفي غير القرآن كم يجوز فيها من وجه؟ * طالب: ثلاثة. * الشيخ: أو ثلاثة، ثلاثة أوجه. أما في القرآن فيقتصر على القراءة ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ جملة ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ حال، فالرجوع عن الإسلام كفر؛ لأنه ليس هناك واسطة بين الإسلام والكفر، خلافًا للمعتزلة كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله تعالى. وقوله: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ هذا القيد يقيد به كل نص دل على أن المرتد كافر، دل على أن الردة تحبط الأعمال، كل نص يدل على أن الردة تحبط الأعمال يقيد بهذه الآية، ما هو القيد؟ أنه إذا مات على الردة، فلو فرض أن أحدًا ارتد عن الإسلام مثلًا صار لا يصلي وعزم على أن لا يصلي، وكان بالأول يصلي، إن مات على عدم الصلاة حبط عمله السابق، وإن هداه الله وصلى فإن عمله السابق لا يحبط، يبقى كما هو، حتى لو كان قد أدى الحج قبل ردته، فإنه إذا عاد إلى الإسلام لا يلزمه إعادة الحج، حتى قال العلماء: إن الرجل لو كان صحابيًّا ثم ارتد عن الإسلام ثم عاد إلى الإسلام هل تبطل صحبته؟ لا، ما تبطل، لا تبطل على الصحيح كما مر علينا في النخبة. والحاصل أن هذا القيد يعتبر قيدًا في جميع النصوص المطلقة الدالة على أن الردة تحبط الأعمال. وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ -والعياذ بالله- تحبط في الدنيا، فلا ينتفعون بها ولا يجزون عليها؛ لأن الأعمال لها جزاء في الدنيا ولها جزاء في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧] هذا جزاء الدنيا، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧] هذا جزاء الآخرة، هؤلاء الذين ارتدوا تحبط أعمالهم في الدنيا والآخرة ومع ذلك في الآخرة لا يسلمون من العقاب. ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ يعني: الملازمون لها؛ لأن صاحب الشيء هو الملازم له، فهم أصحابها الملازمون لها الخالدون فيها، ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أبد الآبدين؟ نعم، أبد الآبدين، لا تفنى ولا يفنون، بل يعذبون فيها دائمًا وأبدًا؛ لأنهم كما أفنوا حياتهم الدنيا بالكفر والشرك، حياتهم الآخرة تكون كلها عقابًا وعذابًا والعياذ بالله، بل يقال لهم: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ [النبأ ٣٠]، وما العذاب يخفف عنهم حتى إنهم يقولون لخزنة جهنم: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر ٤٩]، ولكن لا يمكن هذا، نسأل الله السلامة، اللهم نجنا من النار. قال الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ انتبه ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإيمان في اللغة: التصديق، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف ١٧] أي: بمصدق، يقولونه إخوة يوسف لأبيهم. وأما في الشرع: فإن الإيمان هو التصديق المستلزم للقبول والانقياد، هذا الإيمان، ليس مجرد التصديق؛ ولهذا أبو طالب كان مصدقًا بالرسول ﷺ وليس بمؤمن لماذا؟ لأنه لم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يذعن له وينقاد له، وعلى هذا فليس بمؤمن. وفـ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا بما يجب الإيمان به مع القبول والانقياد. وقوله: ﴿هَاجَرُوا﴾ الهجر في الأصل: الترك في اللغة، الهجر في اللغة الترك، ومنه: هجرت فلانًا، إذا لم تكلمه، وله معنيان: عام، وخاص، أما العام فهو: هجر ما حرم الله عز وجل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»[[أخرجه أحمد في مسنده (٦٩١٢) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.]] هذا بمعنى العام، والمعنى الخاص: أن يهجر الإنسان بلده ووطنه لله ورسوله بأن يكون هذا البلد أو هذا الوطن لا يقيم الإنسان فيه دينه، فيهاجر من أجل إقامة دين الله، حماية لدينه هو بنفسه ونصرة لدين الله عز وجل، كما جاء في الحديث الصحيح: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١)، ومسلم (١٩٠٧ / ١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.]]. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿هَاجَرُوا﴾ المراد بالمهاجرة هنا ما يعم المعنيين: العام والخاص. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ شوف تأمل أعيد الموصول بعد قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾، ولكنه في الجهاد ما أعيد ما قال: والذين جاهدوا؛ وذلك لأن الهجرة والجهاد عملان مبنيان على الإيمان، وأما الإيمان فإنه هو أصل الأصول؛، ولهذا جعله منفردًا وحده ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وأما الهجرة والجهاد فهما عملان متفرعان عنه. وقوله: ﴿جَاهَدُوا﴾ الجهاد هو: بذل الجهد لأمر مطلوب، والجُهد معناه الطاقة، كما قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة ٧٩] أي: إلا طاقتهم، وهو يغلب على بذل الجهد في قتال الأعداء، هذا الغالب، وإلا كل أمر شاق تبذل فيه الطاقة فإنه جهاد؛ ولهذا جهاد النفس يسمى جهادًا، جهاد النفس جهاد بلا شك، ولكن لا صحة للحديث الذي يذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما رجع من تبوك قال: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»[[أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (٣٧٣) من حديث جابر بن عبد الله وضعَّف الحديث، وفيه ليث بن أبي سليم ذكره العقيلي في الضعفاء (٤ / ١٦) ط دار الكتب العلمية فقال: حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيًا في أحد منه في ليث... وذكر آخرين.]] يعني: جهاد النفس، هذا ما له أصل، ولكن لا شك أن النفس تحتاج إلى مجاهدة. أما الجهاد بالمعنى الخاص فهو بذل الجهد في قتال من؟ في قتال الكفار وهو بحسب ما يحمل عليه؛ إن كان الحامل على ذلك العصبية والحمية والشجاعة والرياء، فإنه ليس في سبيل الله، وإن كان الحامل عليه أن تكون الكلمة العليا، فهو في سبيل الله، قال ذلك النبي ﷺ حين «سئل عن الرجل: يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٧٤٥٨)، ومسلم (١٩٠٤ / ١٥٠) من حديث أبي موسى الأشعري.]]. إذن بهذا يتحدد معنى قوله تعالى: ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ﴿جَاهَدُوا﴾ مفعولها محذوف للعلم به، أي: جاهدوا من؟ الكفار أو أعداء الله، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: لتكون كلمة الله هي العليا. واعلم أنه يقال: في كذا، ولكذا، وبكذا، يقول مثلًا: جاهدت لله، وجاهدت بالله، وجاهدت في الله، فجاهدت لله، اللام: لبيان القصد فتدل على أيش؟ على الإخلاص، والباء: الباء للاستعانة فتدل على أنك فعلت ذلك مستعينًا بالله، وفي: للظرفية فتدل على أن ذلك الجهاد في ضمن شرع الله لما يتعدى فيه الحدود، كما تقول: صليت لله، وأيش بعد؟ وبالله، وفي الله، أي: في دينه ما خرجت. وقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تقدم لنا قبل زمن غير بعيد أن السبيل بمعنى الطريق، وأنه يضاف إلى الله تارة، ويضاف إلى الخلق تارة، فمثال الإضافة إلى الله كثير كما في هذه الآية: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ومثال إضافته إلى الخلق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء ١١٥]، ﴿سَبِيلِ﴾ مضاف لـ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾. أما إذا قلتم: ابن السبيل، فالسبيل مضاف إليه وليس مضافًا. ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ شوف سبيل المؤمنين ومرة يضيف إليه، أما إضافته إلى المؤمنين فلأنهم سالكوه، وأما إضافته إلى الله فلأن الله تعالى هو الذي شرعه ولأنه يوصل إلى الله، فهو مضاف إلى الله من وجهين. قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ كلمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ تحتاج إلى خبر؛ لأن (الذين) اسمها فأين الخبر؟ ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ هذا الخبر الجملة؛ لأن (أولاء) مبتدأ، و﴿يَرْجُونَ﴾ جملة خبر المبتدأ الثاني، والجملة؟ خبر (إن)، فعندنا جملتان: كبرى، وصغرى، والصغرى فيها جملتان: كبرى، وصغرى، ولَّا لا؟ الجملة الكبرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وخبرها -هذه الجملة الكبرى- الجملة الصغرى: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ هذه صغرى باعتبار الأولى، ﴿يَرْجُونَ﴾ صغرى باعتبار المبتدأ الثاني. ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ إذا قال قائل: كيف هذا التركيب؟ لماذا لم يقل: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله؟ قلنا: لأن الإشارة بمبتدأ جديد تدل على رفعة مقامهم لا سيما وأنه أتى باسم الإشارة الدالة على البعد ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾، ثم إن تكرار المبتدأ يجعل الجملة كأنها جملتان، كأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله أولئك يرجون رحمة الله، فيكون في ذلك تنويها بذكرهم من وجهين: أولًا: الإشارة إليهم بما يدل على الرفعة والعلو. والثاني: أن تكرار المبتدأ يجعل الجملة الواحدة كالجملتين، يجعلها كالجملتين، فيكون بذلك توكيد على توكيد. وقوله: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ المراد بالرجاء هنا: الطمع، ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ الرجاء بمعنى الطلب في حصول ما هو قريب، هذا الرجاء، والتمني؟ الطمع فيما هو بعيد أو متعذر، ومعلوم أن الرجاء: الطمع فيما هو قريب، لا يكون قريبًا إلا بفعل ما يكون قريبًا به، وهؤلاء فعلوا ما تكون الرحمة قريبة منهم، ما هو الذي فعلوه؟ الإيمان، والهجرة، والجهاد، فإذا لم يرجوا هؤلاء رحمة الله من الذي يرجوها؟ إيمان، وهجرة، وجهاد؛ ولهذا قال: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ﴾ هؤلاء هم أهل الرجاء، لكن رجل مقصر لا هجرة ولا جهاد ولا عمل إلا القليل رجاؤه أيش؟ رجاؤه يقولون: التمني رأس مال المفاليس، المفاليس يعني: ما عندهم شيء، يتمنى ولكن ما عنده شيء، فهؤلاء هم أهل الرجاء، أما الذي يرجو يفعل المعاصي، وتنهاه، وترشده ويقول: رحمة الله واسعة، هذا محل الرجاء؟ لا، الرجاء لا بد من أسبابه، حسن الظن بالله لا بد أيضًا من أسبابه. إذن: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ بما عملوا، لكن مع ذلك.. ما قال الله: أولئك لهم رحمة الله كما في آية أخرى، إنما قال: ﴿يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ لأنهم لا يغترّون بأعمالهم، ولا يدلون بها على الله، وإنما يفعلونها وهم راجون، لا أنهم معتمدون عليها متيقنون لثوابها. وقوله: ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ هل المراد هنا بالرحمة الرحمة التي هي صفته؟ أو المراد بالرحمة ما كان من آثار رحمة الله وهو الثواب؟ * طلبة: يحتمل المعنيين. * الشيخ: يحتمل المعنيين، يحتمل: أولئك يرجون أن يرحمهم الله، وعلى هذا فيكون ﴿يَرْجُونَ﴾ أيش؟ الصفة ولَّا الثواب؟ الصفة، يرجون أن يرحمهم، أما احتمال أن تكون رحمة الله؛ أي: ما كان من آثار رحمته، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله قال في الجنة، بل قال للجنة: «أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨٥٠)، ومسلم (٢٨٤٦ / ٣٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فجعل المفعول المخلوق جعله رحمة له؛ لأنه من آثار رحمة الله؛ ولهذا قال: «أَرْحَمُ بِكِ» جعلها كالآلة، أما الرحمة التي هي وصفه فهي شيء آخر؛ فالآية محتملة للمعنيين، وكلاهما متلازمان؛ لأن الله إذا رحم عبدًا يدخله في أي مكان؟ في جنته التي رحمته. قال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ شوف مع ذلك، الله غفور، تقول: قد يقول قائل: ما محل ذكر اسم الله (الغفور) هنا مع أن هؤلاء قاموا بأعمال صالحة؟ الجواب: أن القائم بالأعمال الصالحة قد يحصل منه شيء من التفريط، ولهذا نحن إذا سلّمنا من الصلاة ونحن نناجي الله في صلاتنا ماذا نقول أول ما نسلم؟ أستغفر الله، الإنسان ما يخلو، وقال تعالى: لما ذكر الدفع من عرفة قال: ﴿اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾. الشاهد أنه هنا ذكر اسم الغفور؛ لأن هذه الأعمال الجليلة وإن قام بها الإنسان قد يحصل منه تقصير؛ فلهذا قال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾، أما ﴿رَحِيمٌ﴾ فواضح مناسبتها؛ لأن كل هذه الأعمال اللي عملوا من آثار رحمته، فلله سبحانه وتعالى على العامل عملًا صالحًا لله عليه ثلاث نِعم عظيمة: النعمة الأولى: أنه بيّن له العمل الصالح من العمل غير الصالح ولَّا لا؟ بأي وسيلة بينها؟ بما أنزله من الوحي على رسله، ما ظنك لو أن الناس بقوا عميًا ما يعرفون؟ فهذه نعمة من الله عز وجل أن الله تعالى أرسل إليك الرسل، بل هي أعظم النعم يبيّنون لك. ثانيًا: نعمة ثانية عظيمة أن هداك لها؛ لأن الله تعالى أضل أممًا عن الإسلام، أضل أناسًا أقوى منك زكاء، وأمضى منك عزيمة، أضلّهم عن الإسلام، وأنت هداك الله عز وجل، هذه نعمة عظيمة. ثالثًا: أن الله رتّب على ما أنعم به عليك من الهداية، رتّب لك الثواب الجزيل، ولهذا كل هذا من مقتضى رحمته سبحانه وتعالى، ومع هذا فالله عز وجل الذي أنعم علينا بهذه النعم يقول: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن ٦٠] سبحان الله! أنت المحسن علينا أولًا وآخرًا، ثم تقول: ما جزاء إحسانكم إلا أن أحسن إليكم؟! هل جزاء الإحسان (العمل) إلا الإحسان (الثواب)؟ وهذا مما يدل على كمال رحمة الله عز وجل بالخلق أنه ينعم، ثم يشكر المنعَم عليه. ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان ٢٢] سبحان الله، ما أعظم الله عز وجل! يُنعم ويثيب، ينعم بالهداية، بل ينعم بالبيان، ثم بالهداية، ثم بالثواب. ثم يقول: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان ٢٢]، الله أكبر! كل هذه من مقتضيات رحمته جل وعلا؛ الإيمان والهجرة والجهاد، كلها من مقتضى رحمته، لولا رحمة الله ما حصل هذا لمن آمن وهاجر وجاهد. (...) ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ جملة مستقلة ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ جملة مستقلة مبتدأ وخبر. * طالب: يعني ما بينهما ارتباط؟ * الشيخ: لا، يعني الارتباط أن هذه مبنية على هذه فقط. * طالب: يعني ما فيه علاقة؟ * الشيخ: لا، عربيةً لا. قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾. * من فوائد الآية الكريمة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو مرجع الصحابة في العلم لقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾. * ومن فوائدها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم كل الأحكام، بل لا يعلم إلا ما علمه الله، ولهذا أجاب الله عن هذا السؤال: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: اهتمام الصحابة رضي الله عنهم لما يقع منهم من المخالفة، وأنهم يندمون، ويسألون عن حالهم في هذه المخالفة لقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ لأنهم سألوا الرسول لما قاتلوا وصار الكفار يعيبونهم، صاروا يسألون. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القتال في الشهر الحرام من كبائر الذنوب لقوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وهذه الآية الكريمة اختلف فيها أهل العلم هل هي منسوخة أو محكمة؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها منسوخة، وأن القتال في الأشهر الحرم كان محرمًا ثم نسخ، ولكن القول الثاني أن الآية محكمة، وأن القتال في الأشهر الحرم ليس جائزًا، بل إنه محرم، دليل القائلين بأنه منسوخ قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة ٣٦] ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة ٧٣] وما أشبه ذلك من العمومات الدالة على وجوب قتال الكفار، ومن أدلتهم: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاتل ثقيفًا متى؟ في ذي القعدة في شهر المحرم. ومنها: أن غزوة تبوك متى كانت؟ في محرم ولَّا في رجب؟ في رجب وهو شهر حرام، ولكن الذي يظهر لي أن القتال في الأشهر الحرم باقٍ، وأن الآية محكمة، ويجاب عن أدلة القائلين بالنسخ بأن الآيات العامة كغيرها من النصوص العامة التي تخصص ولَّا لا؟ ﴿اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة ٥] ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ [التوبة ٧٣] عام يخصص بقوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة ٢١٧]، وأما قتال الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه أجيب عنه بأن هذا ليس قتال ابتداء، وإنما هو قتال مدافعة، وقتال المدافعة لا بأس به حتى في هذه الأشهر الحرم، إذا قاتلونا نقاتلهم، فإن ثقيفًا كانوا تجمّعوا للرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام ليغزوهم، وكذلك الروم في غزوة تبوك تجمّعوا له فخرج إليهم ليدافعهم، فالصواب في هذه المسألة أن الآية محكمة، وأنه لا يجوز ابتداء الكفار بالقتال، لكن إن اعتدوا علينا نقاتلهم حتى في الشهر الحرام. * ويستفاد من الآية الكريمة : ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ أن الأشهر قسمان: أشهر حرم، وأشهر غير حرم. يتفرع على هذه الفائدة: أن الله عز وجل يختص من خلقه ما شاء، فهناك أماكن محترمة وأماكن غير محترمة، وأزمنة محترمة وأزمنة غير محترمة، ولَّا لا؟ وهنالك رسل وهناك مرسَل إليه، وهناك صِديقون، وهناك من دونهم، والله عز وجل كما يفاضل بين البشر يفاضل بين الأزمنة والأمكنة. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر، وكبائر، وهل الكبائر على مستوى واحد والصغائر على مستوى واحد؟ لا، درجات، ولهذا سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أكبر الكبائر؛ أكبر الكبائر، دل هذا على أن الكبائر فيها أكبر وفيها أصغر من الأكبر وإلا كلها كبائر؛ فالإشراك بالله أكبر الكبائر، وهو شرك مخرج عن الملة، عقوق الوالدين من أكبر الكبائر لكن ما يخرج من الملة، شهادة الزور من أكبر الكبائر لكن لا تخرج عن الملة، قتل النفس كذلك، إذن الكبائر درجات، والصغائر كذلك، لكن ما هو حد الكبائر؟ حد الكبائر: اختلف فيه أقوال الناس؛ فمنهم من قال: إن الكبائر معدودة، وذهب يتتبع كل نص قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إن هذا من الكبائر، وعدَّها سردًا، ومنهم من قال: إن الكبائر محدودة، وأيش معنى محدودة؟ يعني أن لها حدًّا، ما هي معيّنة هذه وهذه وهذه، لا، محدودة، حِدة، ويدخل في هذا الحد شيء كثير، ثم اختلفوا في الحد بماذا نحد الكبائر؟ قال بعضهم: كل ذنب لُعن فاعله هو كبيرة. وقال بعضهم: كل ذنب فيه حد في الدنيا فهو كبيرة. وقال بعضهم: كل ما فيه وعيد في الآخرة فهو كبيرة، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله قال في بعض كلام له: إن الكبيرة كل ما رُتّب عليه عقوبة خاصة. الذنوب إذا قيل: لا تفعل كذا، أو حُرّم عليك كذا، أو ما أشبه ذلك بدون أن يجعل عقوبة خاصة لهذا الذنب فهو صغيرة، أما إذا رُتّب عليه عقوبة، أي عقوبة كانت فإنه يكون من الكبائر، فالغش مثلًا كبيرة ولَّا لا؟ * طلبة: كبيرة. * الشيخ: لأنه رُتب عليه عقوبة خاصة وهي البراءة منه: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»[[أخرجه مسلم (١٠٢ / ١٦٤)، والترمذي (١٣١٥) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] كذا؟ كون الإنسان لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه كبيرة؛ لأنه رتب عليه عقوبة خاصة: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣)، ومسلم (٤٥ / ٧١)، واللفظ للبخاري من حديث أنس رضي الله عنه.]]. كون الإنسان لا يكرم جاره كبيرة «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠١٩)، ومسلم (٤٨ / ٧٧)، واللفظ للبخاري من حديث أبي شريح رضي الله عنه.]]، وكونه يعتدي على جاره أيضًا أكبر، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ» قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[[أخرجه البخاري (٦٠١٦) حديث أبي شريح رضي الله عنه.]]. هذا الحد في الحقيقة حد معقول؛ لأنك لا تستطيع أن تفرق بين ما رُتّب عليه حد في الدنيا كالزنا والسرقة، وما رُتّب عليه وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان أو غضب، أو لعنة أو ما أشبه ذلك، ولكن مع هذا لا نقول: إن هذه الكبائر سواء، بل من الكبائر ما يقرب أن يكون من الصغائر على حسب ما رُتّب عليه من العقوبة، فالذين يحاربون الله ورسوله ليسوا كالذين يسرقون فقط، ولهذا جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة ٣٣] وهذا الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله في حد الكبيرة هو أقرب ما يكون، وأطرد ما يكون؛ يعني مطرد. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الصد عن سبيل الله أعظم من القتال في الأشهر الحرم، من أين تؤخذ؟ ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى أن قال: ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾. * طالب: عند الله. * الشيخ: إي نعم، أخيرًا: الفتنة أكبر من القتل. يتفرع على هذه الفائدة: أن من أعظم الذنوب أن يصد الإنسان عن الحق، تجي لشخص تجده مثلًا متعبدًا طالب علم، تقول له: وأيش تبغي بهذا، وأيش تبغي مثلًا بالمطالعة، وأيش تبغي بطلب العلم؟! راحوا الناس الآن تقدموا، يقول: وصلنا القمر، وصلنا الفضاء، وما أشبه ذلك، هذا الذي يفعل مثل هذا يكون صادًّا عن سبيل الله؟ نعم، يكون صادًّا عن سبيل الله، فكل من ثبط عن الخير فإنه صادّ عن سبيل الله، ولكن هذا الصد يختلف اختلاف ما صد عنه، من صد عن الإيمان فهو أعظم شيء مثل ما فعل مشركو قريش، ومن صد عن شيء أقل كمن صد عن تطوع مثلًا فإنه أخف، لكن لا شك أن هذا جرم، النهي عن المعروف جرم بلا شك، وصد عن سبيل الله. * ومن فوائد الآية: أن الكفر بالله أعظم من القتل في الشهر الحرام أو لا؟ لقوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إلى آخره. * ويستفاد من الآية: عِظم الصد عن المسجد الحرام، فهل يستفاد منه أنه لا يجوز أن يمنع الناس من الحج ولَّا لا؟ * يستفاد منه: أنه لا يجوز منع الناس من الحج، لكن لو قال ولي الأمر: أنا لا أمنعهم، لكنني أنظمهم؛ لأن الناس يقتل بعضهم بعضًا لو اجتمعوا جميعًا، فهل نقول: إن هذا من باب السياسة الجائزة، كمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من لا يصلح للجهاد من الجهاد، أو نقول: إن في هذا نظرًا؟ * طلبة: الأول. * طالب: مثل قولنا يا شيخ (...) قولنا تنظيمًا يجوز. * الشيخ: على كل حال المسألة هذه؛ يعني تحتاج إلى نظر بعيد، وهل إن مراعاة المصالح بالنسبة للعموم تقضي على مراعاة المصالح بالنسبة للخصوص أو لا؟ ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ نستفيد فوائد: فمن فوائدها: حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال عن العلم؛ حيث سألوا النبي عليه الصلاة والسلام، وكم من سؤال وقع على الصحابة رضي الله عنهم بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من اثنتي عشرة مرة. * ويستفاد منها: أنه من حسن الإجابة أن يزيد المسؤول على ما يقتضيه السؤال إذا دعت الحاجة إليه، منين يؤخذ؟ من قوله: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ فإنهم ما سألوا عن الذي ينفق عليه إنما سألوا: ماذا ينفقون فأجيبوا بما ينفق عليه. وهل أجيبوا عن السؤال؟ * طالب: إي نعم. * الشيخ: أين؟ * طالب: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾. * الشيخ: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ نعم. * ويستفاد من الآية الكريمة: فضل الإنفاق على الوالدين والأقربين، وأنه مقدم على الفقراء والمساكين، وجه ذلك؟ أن الله بدأ به ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ ولا يُبدأ إلا بالأهم فالأهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن لليتامى حقًّا في الإنفاق وإن كانوا أغنياء، وجهه: أنه خصهم، ثم أتى بعدهم بقوله: ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾، فإن كانوا يتامى ومساكين اجتمع فيهم استحقاقان: اليتم، والمسكنة، وإذا كانوا أقارب؛ أقارب ويتامى ومساكين؟ ثلاث استحقاقات، وإذا كانوا أبناء سبيل أيضًا؟ أربعة؟ يمكن اليتيم يصير ابن سبيل؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: يمكن يسافر به. * ويستفاد من الآية الكريمة: عموم علم الله ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. * ويستفاد منها أيضًا: أن كل فعل خير سواء كان إنفاقًا ماليًّا، أو عملًا بدنيًّا، أو تعليم علم، أو جهادًا في سبيل الله، أو غير ذلك فإن الله تعالى يعلمه، وسيجازي عليه لقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ فإن ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ نكرة في سياق الشرط ما تفعلوا فتكون للعموم، متى تكون النكرة للعموم؟ إذا كانت في سياق النفي، وأيش بعد؟ أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام الإنكاري كقوله: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [مريم ٩٨] في هذه الأربعة تكون للعموم، أما في مقام الإثبات، كما لو قلت: اضرب رجلًا، فهي للإطلاق وليست للعموم. ما الفرق بين الإطلاق وبين العموم؟ الفرق: أن الإطلاق عمومه بدلي، والعموم عمومه شمولي، كلام باللغة غير العربية، واضح؟ * طالب: بالعربية. * الشيخ: بالعربية لكن غير مفهوم؛ أقول: الفرق بين الإطلاق والعموم: أن الإطلاق عمومه بدلي، والعموم عمومه شمولي واضح؟ التفصيل؛ عمومه بدلي بمعنى: أنه يشمل جميع الأفراد على سبيل البدل؛ يعني: واحد منها يكفي عن الجميع، هذا المعنى، عمومه بدلي أنه يشمل جميع الأفراد على سبيل البدل أي: أن واحدًا منها يكفي عن الجميع، وأما العام فعمومه شمولي بمعنى أنه يتناول جميع الأفراد على سبيل التعيين ما هو على سبيل البدل، فإذا قلت مثلًا: أكرم الطلبة. * طالب: الكل. * الشيخ: يشمل الجميع، لازم كلهم تكرمهم، إذا قلت: أكرم طالبًا، يكفي واحد، لكن ما هو على سبيل التعيين، على سبيل البدل ولَّا لا؟ إذا أكرمت أول واحد أو آخر واحد أو من بينهما كفى. فهمتم؟ النكرة في سياق الإثبات للإطلاق، وفي سياق النفي للعموم، فإذا قلت: أعتق رقبة، أيّ رقبة تعتقها كفى، وإذا قلت: لا تعتق رقبة، فإنك لا تعتق أي رقبة من الرقاب. تمام؟ * ويستفاد من الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن لا يحقر من المعروف شيئًا لقوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لا تحقرن شيئًا من المعروف، لا تقل: والله هذا شوي، هذا قليل، هذا بسيط «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٥١٢)، ومسلم (١٠١٦ / ٦٧) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.]]. ثم قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ إلى آخره. * يستفاد من الآية الكريمة: فرضية الجهاد لقوله: ﴿كُتِبَ﴾ بمعنى (فُرض). * ويستفاد من الآية الكريمة: أنه لا حرج على الإنسان إذا كره الشيء المكتوب عليه، لا كراهة من حيث أمر الشارع به، ولكن من حيث طبيعته لقوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ لكن من حيث أمر الشارع به وأيش الواجب؟ الواجب الرضا وانشراح الصدر به. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن البشر لا يعلمون الغيب ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾. * ويستفاد من الآية: أن الله عز وجل قد يحكم حكمًا شرعيًّا أو كونيًّا على العبد بما يكره وهو خير له، قد يصاب الإنسان بمصيبة وتكون خيرًا له، افرض مثلًا أنك مسافر وحصل على السيارة عطل، تكره هذا ولَّا تحبه؟ تكرهه، لكن تبين لك أن أمامك بنحو أميال قُطّاع الطريق لصار هذا التعطل صار خيرًا لك ما تدري، فقد يقدّر الله الشيء على الإنسان وهو يكرهه ويكون خيرًا له، ولهذا لا ينبغي أن تكرهه. * ويستفاد من الآية الكريمة: عموم علم الله عز وجل لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ لكن من أين نأخذ العموم؟ * طالب: من (لا) النافية يا شيخ. * الشيخ: لا، كيف نأخذ العموم؟ * طالب: من الفعل المضارع. * الشيخ: الفعل المضارع ما يدل على العموم، حذف المعمول يفيد العموم، هذه القاعدة مرت علينا من قبل، حذف المعمول يفيد العموم أو لا؟ ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى ٦ - ٨] كلها محذوفة المفاعيل، (آواك)، وآوى بك أيضًا. ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ هداك أنت ولَّا هدى بك أيضًا؟ هداك وهدى بك. ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ لو قال: فأعناك ما استفدنا أن غيره أغناه الله به أيضًا، بل أغناه وأغنى به، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للأنصار: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣٠)، ومسلم (١٠٦١ / ١٣٩) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.]]. إذن نأخذ العموم من قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾، وأيش طريق العلم به؟ حذف المفعول إي نعم، فإن حذف المفعول يدل على العموم. * ويستفاد من الآية الكريمة: ضعف الإنسان لقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فالأصل في الإنسان عدم العلم، ولهذا قال الله تعالى لرسوله ممتنًّا عليه: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء ١١٣] فالأصل في الإنسان أنه لا يعلم ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل ٧٨]. ثم قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إلى آخره، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ نأخذ منها ما سبق من حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال والعلم، ولهذا يقال: إن مفتاح العلم السؤال. * ويستفاد من الآية الكريمة: تحريم القتال في الأشهر الحرم، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ يعني من كبائر الذنوب، والأشهر الحرم أربعة، وأظنها معروفة لكم. * ويستفاد من الآية الكريمة: تقديم ما يفيد العِلّية لقوله: ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ والمسؤول عنه هو القتال في الشهر الحرام، لكنه قدم الشهر؛ لأنه العلة في تحريم القتال، يعني: ما شأن القتال فيه؟ * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم من أحكام الله إلا ما علمه الله. * طالب: يسألون. * الشيخ: لا، الجواب، من جواب الله له: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ كذا؟ ينبني على هذه المسألة: هل للرسول عليه الصلاة والسلام أن يجتهد أم لا؟ الجواب: نعم، له أن يجتهد، ثم إذا اجتهد فأقره الله، صار اجتهاده بمنزلة الوحي، كما أن الرسول لو أقر أحدًا من الصحابة على شيء صار فعل هذا الصحابي بمنزلة السنة، عرفتم؟ فإن لم يقره الله عليه تبين أن الاجتهاد ليس بصواب، كقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة ٤٣]. * طالب: فضيلة الشيخ، ما يجمع بينها وبين قول الله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم ٣]؟ * الشيخ: إيه ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ أكثر المفسرين على أن المراد بالقرآن ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ يعني: أن القرآن وحي من الله. * طالب: شيخ، فعل النصراني (...) النبي ﷺ أقره على ذلك (...) القاعدة؟ * الشيخ: لا، إحنا ذكرنا أنه لا يلزم من إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام على الشيء أن يكون سنة مشروعة، لكن أن يكون جائزًا، الرسول أقره بمعنى أنه ليس بمحرم، لكنه ليس بسنة، ولهذا لم يكن الرسول يفعله عليه الصلاة والسلام، وذكرنا لذلك بعض النظائر أيضًا، تحفظون منها شيئًا؟ * طالب: مثل الصدقة على الميت (...). * الشيخ: فهذا جائز وليس بمشروع، لا يشرع لكل إنسان مات له ميت أن يتصدق عنه. * ويستفاد من الآية الكريمة: تفاوت الذنوب؛ أن الذنوب تتفاوت، منين؟ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ هذه أولًا تفيد أن الذنوب تتفاوت، وبتفاوت الذنوب يلزم من ذلك تفاوت الإيمان؛ لأنه كلما كان الذنب أعظم كان نقص الإيمان به أكبر، فيكون في ذلك ردّ على من أنكروا زيادة الإيمان ونقصان الإيمان، وللعلماء في ذلك ثلاثة آراء: منهم من قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ومنهم من قال: إن الإيمان يزيد وينقص، ومنهم من قال: إن الإيمان يزيد ولا ينقص، الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص هم طائفتان: المرجئة، والمعتزلة والخوارج؛ المرجئة لماذا قالوا: لا يزيد ولا ينقص؟ قالوا: لأن الإيمان هو التصديق بالقلب، والتصديق بالقلب لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأعمال عندهم لا تدخل في مسمى الإيمان، والمعتزلة والخوارج قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق باللسان والعمل بالجوارح، وأنه إذا فُقد في واحدة من هذه الثلاثة فُقد منها الجميع، فعلى هذا لا يزيد ولا ينقص، إما أن يبقى كله، وإما أن يعدم كله، واضح؟ وقال بعض أهل العلم: إن الإيمان يزيد ولا ينقص؛ لأن الله تعالى صرح في القرآن بأنه يزيد ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر ٣١] ولكن لم يأتِ في القرآن أن الإيمان ينقص، عرفتم؟ والصحيح أنه يزيد وينقص، وأنه يزيد وينقص باعتبار اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، حتى باعتبار اعتقاد القلب يزيد وينقص، أليس إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة ٢٦٠] يزيد ولَّا لا؟ يزيد، وأنت الآن عندما يخبرك رجل ثقة بأن فلانًا قدم إلى البلد تُصَدِّق، فإذا جاءك آخر ازداد تصديقك ولَّا لا؟ ازداد، فإذا جاء ثالث ازداد، فإذا جاء رابع ازداد، إذا وصل إلى حد التواتر أثبت العلم. فإذن التصديق بالقلب يزيد، حتى نفس الشخص يجد في بعض الأحيان في بعض الساعات يجد في قلبه إيمانًا راسخًا كأنما يشاهد العرش، وكأنما يرى الله عز وجل، كما قال الرسول: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] وأحيانًا يغفل ويهبط هبوطًا كاملًا، أو كثيرًا إيمانه، أما زيادة الإيمان باعتبار أقوال اللسان فحدّث ولا حرج، فالذي يسبح الله مئة مرة ليس كالذي يسبحه عشر مرات، أيهما أزيد؟ مئة مرة، وكما أنه يختلف بالكمية يختلف أيضًا بالكيفية، فالعبادة المبنية على الإخلاص، وتمام الاتباع ليست كالعبادة الناقصة في الإخلاص وتمام الاتباع، وكذلك في الجوارح، عمل الجوارح يختلف، فالذي يصلي أربع ركعات ليس كالذي يصلي ثماني ركعات، واضح؟ إذن يزيد ولَّا لا؟ يزيد بالاعتقاد، والقول، والعمل الفعل، والذين قالوا: يزيد ولا ينقص نقول لهم: سبحان الله! نرد عليهم من وجهين: أولًا: أن الرسول أثبت النقص فقال: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٠٤)، ومسلم (٨٠ / ١٣٢) واللفظ للبخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.]]. ثانيًا نقول: إذا ثبتت الزيادة ثبت النقص بالضرورة، وأيش معنى هذا زائد على هذا إلا أن الثاني ناقص عنه؟ فهما متلازمان متى ثبتت الزيادة ثبت النقص، ومتى ثبت النقص انتفت الزيادة. واضح؟ فالصواب إذن أنه يزيد وينقص باعتبار إقرار القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح، وهذا أمر مسلّم، وهو معلوم بالضرورة من تفاوت الكبائر أو تفاوت الذنوب، ومن تفاوت الأعمال الصالحة أيضًا فإن تفاوت العمل يستلزم تفاوت العامل. * طالب: شيخ، يصح أن نقول: إن العلماء من الخوارج والمعتزلة نقول: علماء؟ * الشيخ: إيه علماء إيه. * الطالب: ضلّال هم يا شيخ. * الشيخ: علماء، لكنهم ما نقول عنهم: ضلال ولَّا ما هم ضلال، هذا شيء ثانٍ، لكن نقول: علماء، هم علماء الملة، شيخ الإسلام رحمه الله يقول في الفتوى الحموية : انقسم أهل القبلة في مسائل الصفات إلى ست فرق. وعد منهم الجهمية والمعطلة؛ لأنهم منتسبون للإسلام ويعدون من الفرق الإسلامية لكنها مخالفة. * طالب: يكفرون؟ * الشيخ: لا شك أن بعض البدع كفر، لكن الشخص بعينه لا، يحتاج إلى أن تقوم عليه حجة. * طالب: شيخ، في من يقول في (...): إيمان الملائكة لا يزيد ولا ينقص، إيمان الأنبياء يزيد ولا ينقص، وإيمان عوام الناس يزيد وينقص؟ * الشيخ: هذا غلط، نحن نقول: الإيمان من حيث هو إيمان يزيد وينقص بقطع النظر عن المتصف به، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد يفعلون بعض الأشياء التي يظلمون فيها أنفسهم: هذا آدم كما قال الله عز وجل عنه: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ [طه ١٢١، ١٢٢] وهذا موسى قتل نفسًا بغير حق وأشياء كثيرة، ولكنهم يرجعون إلى الله عز وجل ويتوبون ويكونون بعد التوبة خيرًا منهم قبلها. * طالب: إذن قوله يعني خطأ؟ * الشيخ: إي نعم، خطأ. * طالب: فالملائكة يا شيخنا، يفعلون الخير المحض؟ * الشيخ: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم ٦]، إي نعم، ما نستطيع نقول شيئًا، ما نقول شيئًا. * الطالب: نتوقف عنه؟ * الشيخ: نتوقف عنه، ما نقول، نقول: الإيمان من حيث هو إيمان يزيد وينقص، أما باعتبار المؤمن نفسه فقد يكون بعض الناس يمن الله عليه ويزداد دائمًا في إيمانه وعمله الصالح، وقد يكون بعض الناس بالعكس دائمًا في نقص. * طالب: إذن الأقوال ثلاثة؟ يزيد وينقص؟ * الشيخ: على أقوال ثلاثة: يزيد وينقص، لا يزيد ولا ينقص، يزيد ولا ينقص. * طالب: (...). * الشيخ: هو أبو حنيفة رحمه الله من المرجئة، لكنه يدخل القول في مسمى الإيمان، يدخله. * من فوائد الآية الكريمة: عظمة الصدّ عن سبيل الله لقوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى آخره. والصد عن سبيل الله له طرق متعددة كثيرة غير محصورة، قد يكون بمنع الناس من فعل العبادات، وقد يكون بإشغالهم وإلهائهم عن فعل العبادات، وقد يكون في تحقير العبادات في أنفسهم، وقد يكون بإلقاء الشبهات في قلوب الناس حتى يشكوا في دينهم ويدَعوه، المهم أن طرق الصدّ سبيل الله عن دينه لا حصر له كثيرة جدًّا. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الكفر بالله أعظم من القتال في الشهر الحرام أو لا؟ ويستفاد من هذا: أن الصد عن المسجد الحرام أعظم من القتال في الشهر الحرام لقوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. * ويستفاد من الآية الكريمة أيضًا: أن إخراج أهل مكة منها أعظم من القتال في الشهر الحرام. * ويستفاد من الآية الكريمة: تسلية الله عز وجل للمؤمنين بما جرى من الكافرين مقابل فعل المؤمنين؛ حيث قاتلوا في الشهر الحرام، تسلية، من أين تؤخذ؟ (...) من يتصف بها؟ المشركون الذين انتقدوا على المسلمين قتلهم لهذا الرجل في الشهر الحرام؛ يعني أنتم إذا فعلتم هذا فقد فعلوا أكبر من ذلك، أربعة أمور؛ كل واحد منها أكبر من هذا. * ويستفاد من هذه الآية الكريمة: أن من كان أقوم بطاعة الله فهو أحق الناس بالمسجد الحرام في قوله: ﴿إِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ مع أن المشركين ساكنون في مكة لكن ليسوا أهلًا للمسجد الحرام كما قال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال ٣٤]. * ويستفاد من ذلك: أن الفتنة أكبر من القتل؛ الفتنة أكبر من القتل، وأيش الفتنة؟ الشرك، الشرك أعظم، وقلنا: لكم فيما سبق أنها تشمل الشرك، وتشمل أيضًا فتْن الناس عن دينهم بأنواع الشبهات، أو بأنواع الشهوات. * ويستفاد منها: التحذير من الفتنة لقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ فإذا كانت أكبر فالواجب الحذر منها، وكثير من الناس يأتون إلى مواضع الفتن وهم يرون أنهم لن يفتتنوا، ولكن لا يزال بهم الأمر حتى يقعوا في الفتنة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الدجال: «مَنْ سَمِعَ بِهِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَتْبَعَهُ»[[أخرجه أبو داود (٤٣١٩) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بلفظ: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يُبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ»، أو «لِمَا يُبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» الحديث.]] هذا هو الحديث أو معناه، المهم أن الإنسان لا يُعرّض نفسه للفتن، كم من إنسان وقع في مواقع الفتن وهو يرى نفسه أنه سيتخلص، ثم لا يتخلص، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) واللفظ له من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.]]. * ويستفاد من الآية الكريمة: حرص المشركين على ارتداد المؤمنين ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ إلى هذا الحد، إلى القتال، لأجل أن يردونا عن ديننا، وإذا حصل لهم الرّدّة بدون قتال؟ * طالب: أحب لهم. * الشيخ: أحب لهم؟ أحب إليهم معلوم، إذا حصل أن المسلمين يرتدون بدون قتال فهو أحب إليهم، ولهذا كان الغزو الفكري والغزو الأخلاقي أعظم من الغزو السلاحي، ولَّا لا؟ لأن هذا يدخل على الأمة من حيث لا تشعر، وأما ذاك فهو صدام مسلّح، ينفر الناس منه بالطبيعة ما يمكنون أحدًا يقاتلهم، أما هذا فإنه -والعياذ بالله- سلاح فتّاك، ولهذا كم أفسد على الأمة؟! أصل الفتن التي وقعت في الأمة الإسلامية أصلها من مثل هذا، نعم بدعة الروافض، بدعة الخوارج وما أشبه ذلك وأيش أسبابها؟ هو هذا، يفسدون الفكر حتى يوقعوا الناس في القتال. * ومن فوائد الآية الكريمة: الحذر من الكافرين لقوله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ﴾ وكلمة: لا يزال، أظن نفهم كلنا أنها تفيد الاستمرار، وأنه ليس في وقت دون وقت، لا يزالون يفعلون هذا حتى يردوكم عن دينكم. * ويستفاد من الآية الكريمة: تيئيس الكافرين من أن يردوا المؤمنين كلهم عن الدين في قوله: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ ولكن لن يستطيعوا حتى يأتي أمر الله فيكون في آخر الزمان تهب ريح تقبض نفس كل مؤمن حتى لا يبقى إلا شرار الخلق. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الردة مبطلة للأعمال لقوله: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾. * ويستفاد منها: أنها لا تبطل العمل إلا إذا مات على الكفر لقوله: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾، وعلى هذا فنقول: لو أن أحدًا ارتد والعياذ بالله؛ ارتد عن الإسلام، بدأ ما يصلي، ترك الصلاة نهائيًّا، ثم هداه الله ورجع إلى الإسلام وصار يصلي، فهل أعماله السابقة ترجع ولَّا تذهب؟ ترجع؛ لأن الله عز وجل اشترط أن يموت وهو على كفره، طيب لو كان صحابيًّا هل ترجع صحبته؟ نعم، على الأصح، كما قال ابن حجر على الأصح ترجع، طيب لو كان قد حج، ثم عاد إلى الكفر، ثم عاد إلى الإسلام؟ يُلزم بأداء الحج؟ لا، يكفي الحج الأول. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن المرتد مخلّد في النار لقوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن المرتد لا يعامل في الدنيا بأحكام المؤمنين لقوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، فلا يغسّل، ولا يكفّن، ولا يُصلّى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وهل يرث ويورث؟ فيه خلاف؟ أما كونه لا يرث فهذا الظاهر أنه بالإجماع، ولا أدري، لكن الظاهر، أما كونه يورث فقد اختار شيخ الإسلام أنه يرثه أقاربه المسلمون، ولكن الصحيح أنه لا توارث لعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أسامة: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٧٦٤)، ومسلم (١٦١٤ / ١) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.]]. رجل عنده ملايين الدراهم ومئات العقارات، وآلاف السيارات، ولكنه ما يصلي ومات، وله أبناء وزوجات قلنا: ها المال هذا ما هو لكم، المال لبيت المال، هذه صعبة جدًّا، لكن مع ذلك فيها فائدة عظيمة؛ لأن بعض الناس قد يحمله كونه يتصور أن أولاده سيشرّدون بعده، ولا يكون لهم استحقاق في أمواله إلا بقدر ما يستحقون من بيت المال، ربما أن هذا الأمر يحمله على أن يرجع إلى الإسلام ويتوب، وإذا رجع إلى الإسلام وتاب تاب الله عليه وصار موروثًا. * طالب: كذلك يحمل أهله على (...). * الشيخ: ويحمل أهله أيضًا على أن يشددوا عليه في النصيحة. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن الردة مبطلة للعمل أيًّا كان ذلك المرتد، سواء كان من الصحابة أو من التابعين أو ممن بعدهم لقوله: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ﴾ والخطاب أول ما يدخل فيه الصحابة ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ وقد ارتد أحد منهم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام مثل عبد الله بن خطل، أسلم ثم ارتد والعياذ بالله، ولحق بمكة، واتخذ جواري يغنين بهجاء الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا لما كان في فتح مكة قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[[أبو داود (٣٠٢٢) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.]] فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله، عبد الله بن خطل متعلق بأستار الكعبة في المسجد ولَّا خارج؟ في المسجد متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقْتُلُوهُ، اقْتُلُوهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٨٤٦) ومسلم (١٣٥٧ / ٤٥٠) من حديث أنس رضي الله عنه.]]. فقتل مع أنه في آمَن بقعة على وجه الأرض، ومع أن الرسول قال: «مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ»، فقال: «اقْتُلُوهُ». قال العلماء: لأن الكفر -والعياذ بالله- عظيم؛ فإنه قد سَبّ الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الجواري اللاتي كن يغنين بالقدح في الرسول ﷺ. * طالب: يعني (مَنْ) هذه، مَن دخل بيته فهو آمن؟ * الشيخ: هذا عام. * الطالب: ما يدخل فيها؟ * الشيخ: إلا، لكن يجوز تخصيص العموم، هذا فيه تخصيص العموم؛ يعني إلا عبد الله بن خطل خصه الحديث. * طالب: وإخراج أهله منه أكبر، فما دعاهم إلى تغريب الزاني؟ * الشيخ: لا، هذا شرعي، تغريب الزاني هذا شرعي. * طالب: يا شيخ، أقول: قصة ابن خطل هذه ما تؤيد كلام شيخ الإسلام يعني يقول: من سب الرسول لازم يقتل؟ * الشيخ: إيه، يستدل بها عليه. * طالب: أما ابن خطل؟ * الشيخ: إيه، لكن ما قتل، تاب وبقي. * طالب: الشرك ما يحبط العمل؟ * الشيخ: الشرك إذا مات، إذا مات على الكفر حبط عمله. * طالب: الساحر، وهو حاج يقولون: يبطل الحج، تصدّق هذا الساحر؟ * الشيخ: من يقول؟ * الطالب: يقولون: يبطل حجه. * الشيخ: لا، إن اعتقد أنه يعلم الغيب صار كافرًا؛ لأنه ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وإذا كفر فمات على كفره، وإن تاب تاب الله عليه. * طالب: الحاج لو أنه مشرك، حجه ما يعيده؟ * الشيخ: كيف لو أنه مشرك، وأيش لون؟ * الطالب: ارتد يعني .. * الشيخ: لو ارتد بعد الحج، ثم عاد إلى الإسلام ما يعيد الحج. * الطالب: إذا كان حج وأسلم؟ * الشيخ: ثم أسلم. * الطالب: ثم أسلم، معناه وحج، يعني الحج؟ * الشيخ: ما يبطل الحج، لا، ما يبطل، يعني ارتد بعد الحج نقول: إذا لم يمت على الكفر فهو صحيح؛ يعني فلا يبطل عمله. * طالب: شيخ، قوله: «مَنْ أتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ»[[أخرجه أحمد في المسند (٩٥٣٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]] هل يقول: لا تقبل الصلاة أربعين يومًا؟ * الشيخ: هذاك فسأله، مجرد سؤاله ما تقبل له صلاته أربعين يومًا. * الطالب: إذا حج في الأربعين اليوم هذه تقبل ولَّا ما تقبل؟ * الشيخ: تقبل، تقبل. * الطالب: والصلاة ما تقبل؟ * الشيخ: لا، هو الصلاة تقبل، لكن معنى: لا تقبل مو معناه لا تبرأ بها الذمة، الذمة تبرأ بها، لكن معناه أن سوء عمله هذا يقابل أجر الصلاة فكأنه لم يُصلِّ، بالاتفاق أن صلاته تصح. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾. * يستفاد من الآية الكريمة: فضيلة الإيمان والهجرة لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [البقرة ٢١٨]. * ويستفاد منها: أن الجهاد دون مرتبة الهجرة، من أين يؤخذ؟ * الطلبة: من الترتيب. * الشيخ: لأنه قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ فجعل الجهاد معطوفًا على الهجرة، ولم يجعل له اسمًا موصولًا مستقلًّا. * ويستفاد من ذلك: مراعاة الإخلاص للهجرة والجهاد لقوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ وأما بدون إخلاص فإنه هجرته إلى ما هاجر إليه. * ويستفاد من الآية الكريمة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكون جازمًا بقبول عمله بل يكون راجيًا، ولكنه يرجو رجاء يصل به إلى حسن الظن بالله عز وجل. (...).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب