الباحث القرآني

ثم أخذ الله سبحانه وتعالى في تعداد نعمه عليهم في قوله: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ ﴿ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ الآية الكريمة يقول الله تعالى: ظللنا الغمام، فظاهرها أن المظلل الغمام كما تقول: ظللت زيدًا بالكساء؛ ولهذا ذهب بعض المعربين إلى أن تقدير الآية الكريمة: وظللنا عليكم بالغمام، أنت الآن تقول: ظللت فلانًا، هو مظلل ولا مظلل به؟ مظلل، هنا قال: ﴿ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ ولكن عندي أنه لا يحتاج إلى تقدير، وأن الذي بين المعنى تمامًا هو قوله: ﴿عَلَيْكُمُ﴾ ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ﴾ لو قال: ظللنا الغمام فقط لكان قد يتوهم متوهم أن الغمام مظلل، ولكن هو قال: ﴿ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ﴾ أي جعلناه ظلًّا عليكم، وكان ذلك في التيه حين تاهوا، وقد بقوا في التيه بين مصر والشام كم؟ أربعين سنة يتيهون في الأرض، ولكن الله تبارك وتعالى رحمهم، هم ما عندهم ماء ولا عندهم مأوى ولا شيء، لكن الله سبحانه وتعالى رحمهم فظلل عليهم الغمام، والغمام هو السحاب الرقيق الأبيض، وقيل: السحاب مطلقًا، وقيل: السحاب البارد، الذي يكون به الجو باردًا يتولد منه الرطوبة، فيبرد الجو، وهذا هو الظاهر. ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ المن يقولون: إنه شيء يشبه العسل ينزل عليهم بين طلوع الفجر وطلوع الشمس فإذا قاموا أكلوا منه، وأما السلوى فإنه طائر، طائر ناعم يسمى السُّمَانَى أو هو شبيه به، وقال لنا مشائخنا: إنه هو الصُّفارى، الصُّفارى معروفة، طائر معروف من أحسن ما يكون من الطيور وألذه وهو صغير (...). * الشيخ: هل هذا الموت حقيقي أو نوم؟ * طالب: حقيقي. * الشيخ: نعم، حقيقي. * الطالب: لأن النوم يسمى وفاة. * الشيخ: يسمى الوفاة، نعم، ما هي القصص التي فيها إحياء الموتى في غير هذه القصة؟ * طالب: قصة صاحب البقرة، خمس قصص، هذه واحدة، قصة إبراهيم مع الطير، ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة ٢٦٠]، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها. * الشيخ: ﴿أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة ٢٥٩]. * طالب: ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة ٢٤٣]. * الشيخ: أحسنت. * طالب: قصة صاحب البقرة. * الشيخ: خمس قصص في هذه السورة فيها إحياء الله تعالى الموتى في هذه الدنيا. قوله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾، أيش معناها؟ * طالب: الغمام: قيل سحاب أبيض يظل عنهم الشمس، يبرد الجو. * الشيخ: وأيش معنى ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾؟ * الطالب: هذا منة من الله. * الشيخ: إي، وأيش معناها؟ * الطالب: جعل الغمام يظلهم. * الشيخ: جعل الغمام يظلهم تمام، ولهذا بعضهم يقول: إن تقدير الآية: وظللنا عليكم بالغمام، ولكن الصحيح: أنه على ما هو عليه، إن الغمام مفعول ظللنا، المعنى جعلناه ظلًّا عليكم، هذا المعنى. قوله: ﴿الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ما هو المن؟ * طالب: ما أعرف. * الشيخ: ما تعرفهم؟ * طالب: قيل: إنه شراب يشبه العسل. * الشيخ: نعم. * الطالب: والسلوى هو طائر. * الشيخ: نعم، من أحسن الطيور وألذها ويسمى عندنا يسمى صفارى. * الطلبة: سمانى. * الشيخ: إيه، السمانى عندنا يسمى صفارى؛ لأن الطائر أصفر، لطيف اللحم وطيب. أما المن فإنه شيء ينزل مثل العسل، يقولون: إنه ينزل على الأشجار بين الفجر وطلوع الشمس، يأخذون منه، ويأكلون منه ويجنونه، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْكَمْأَةَ مِنَ الْمَنِّ»[[متفق عليه. البخاري (٤٤٧٨)، ومسلم (٢٠٤٩ / ١٥٧ - ١٦٢) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.]] لأنها تحصل بلا تعب، وظاهر الحديث أن المراد بالمن كل ما يحصل لهم بدون تعب، سواء جعل ذلك الشيء المعين الذي كالعسل أو غيره، وعلى هذا فيكون هذا التفسير يكون أعم من تخصيصه بهذا الذي يشبه العسل؛ لأن قول الرسول ﷺ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ» (مِن) هذه للتبعيض، معناه المن أعم من هذا، فكون الرسول يجعل هذا من المن يدل على أن المن أعم وأوسع، وقد قال بعضهم: إنه كل ما يحصل بدون تعب، وعلى هذا يدخل فيه الفقع الذي هو الكمأة، ويدخل فيها العراجين ولَّا ما يدخل؟ يدخل؛ لأنه طعام من أحسن الأطعمة. * طالب: وأيش العراجين؟ * الشيخ: العراجين، إن شاء الله إذا كثرت في البر. * طالب: موجودة الآن، السنة دي موجودة. * الشيخ: موجودة، نعم، موجودة هذه السنة بكثرة، وأحسن أنكم تشفونها حتى لا يتوهم أحد أنها فئران ولا شيء. * طالب: أنا ما عرفته، يا شيخ. * طالب آخر: وأنا أيضًا ما عرفته. * الشيخ: العراجين هذا نبات أبيض مثل الأصابع يخرج من (...)، لكن هذا أبيض مثل الثياب ينبت بالنافول، وبالجرد، لكنه إذا طبخ مع الطعام من أحسن شيء يكون، يعني تفضله أحيانًا على اللحم، وأحيانًا يجدوه في مكان كبير يعني كثير، أحيانًا يجتمع الجميع في ها الأيام واحد أعطاني نوع منه كبير، وقال: إنه وجده في مكان يحسبونه معظمي، يحسبونه عظام من كثرته. * طالب: لكن العرجون اللي في تفسير الآية؟ * الشيخ: لا، لا العرجون اللي في القرآن المراد به العرجوت يسموه الناس العرجوت حب النخل. * طالب: حق النخل (...). * الشيخ: إن شاء الله إذا كثر، هو الآن قل الظاهر؛ لأن هو يبس شوي إذا كثر إن شاء الله نشوف أحد نمشي إحنا وإياه ونفرجه عليها. * الطالب: شيخ؟ سؤال على شكل اعتراض (...) في قوله تعالى: ﴿اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ يقولون: هل من الحكمة أن يشرع أمة تقتل نفسها؟ وهل فيها نتاج بشرية من قديم؟ * الشيخ: نعم نقول، أما بالنسبة لهذه الملة فلا، بالنسبة لملة الإسلام لا ليس بمشروع، وأما بالنسبة للأمم السابقة فإنهم قد يعذبون بنوع من هذا؛ لأن تكليف الله أنهم يقتلون أنفسهم مثل تكليف الله لإبراهيم أن يذبح ابنه، المقصود الاختبار وإذا كان الله تعالى يشاء أن يهلكهم بفعله، بزلازل أو صواعق أو غيره فأراد أن يهلكهم بأفعالهم ليكون هذا أشد للاختبار وأعظم. * الطالب: يكون بعيدًا عن أن العقل يدرك هذا الشيء أو يقر به؟ * الشيخ: لا، يقر به جدًّا، حتى مثلًا بعض الأحيان السيد يقول لعبده: افعل كذا، يريد أن يعذبه ليمتحن صدقه في طاعته، ليس ببعيد. * الطالب: إن بعض المفسرين العصريين أنكروا، أنه غير مقبول شرعًا ولا عقلًا أن يأمرهم بقتل أنفسهم؟ * الشيخ: هذا من الذين قال فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «لِيَتَبَوَّؤُوا مَقْعَدَهُمْ مِنَ النَّارِ»[[أخرجه الترمذي (٢٩٥٠، ٢٩٥١)، وقال: حديث حسن.]] لأنهم يفسرون القرآن بآرائهم، هم يفسرون القرآن بآرائهم فيقبلون ما وافق رأيهم الفاسد، وينكرون ما لم يقبلوا. ثم قال: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ﴿كُلُوا﴾ الأمر هنا للإباحة، الأمر للإباحة، يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن والسلوى. وقوله: ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ هذه (من) لبيان الجنس وليست للتبعيض؛ لأنهم أبيح لهم أن يأكلوا جميع الطيبات والطيب ضد الخبيث، والخبيث قد يكون خبيثًا لذاته، وقد يكون خبيثًا لكسبه، فالخبيث لذاته كالميتة والخنزير والخمر وما أشبهه، هذا خبيث لذاته كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام ١٤٥] أي: نجس خبيث، هذا محرم لذاته محرم على جميع الناس، على كل الناس، على مالكيه وغيرهم، والنوع الثاني: محرم لكسبه، كالمأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب أو ما أشبه ذلك، فهذا محرم على مكتسبه، وليس محرمًا على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح، المحرم لكسبه يكون محرمًا على كاسبه، وليس محرمًا على غيره، إذا اكتسبه منه بطريق مباح، ويدل لذلك أن النبي ﷺ كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت، فدل ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب، المحرم لكسبه لا يحرم على غير الكاسب (...). ولكنها مفعول ﴿يَظْلِمُونَ﴾، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم، لكنه قدمها لإفادة الحصر، يعني: لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم، أما الله تبارك وتعالى فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع أيضًا بطاعتهم. ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ يعني: واذكروا يا بني إسرائيل إذ قلنا: ادخلوا هذه القرية. ﴿ادْخُلُوا﴾ أمر كوني ولَّا شرعي؟ كوني وشرعي؛ لأنهم أمروا بأن يدخلوها سجدًا وأمروا بأن يدخلوا القرية في القتال، وأبيحت لهم أيضًا، دخلوها فعلًا. وقوله: ﴿هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ اختلف المفسرون في تعيين هذه القرية، والصواب أن المراد بها بيت المقدس؛ لأن موسى قال لهم: ﴿ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة ٢١]. وقوله: ﴿هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ القرية مأخوذة من القَرْيِ وهو التجمع، وسميت البلاد قرية لتجمع الناس بها، ومفهوم القرية في اللغة العربية غير مفهومها في العرف؛ لأن مفهوم القرية في العرف البلد الصغير والكبير يسمى مدينة، ولكنه في اللغة العربية وهي لغة القرآن لا فرق، فالله تعالى سمى مكة أم القرى، مع أن غير مكة فيها مدن عظيمة، مدن عظيمة جدًّا وسماها أم القرى، وكذلك قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ [محمد ١٣] والمراد بالقرية التي أخرجته؟ مكة، يقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً﴾ هذه معناها أنها كبيرة وعظيمة، ومع ذلك سماها الله تعالى قرية. هذه القرية ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ قوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾، ادخلوا فكلوا منها، الأمر هنا في قوله: ﴿ادْخُلُوا﴾ قلنا: إنه أمر كوني يصير ﴿فَكُلُوا﴾ الأمر للإباحة، يعني: فأبحنا لكم أن تأكلوا منها ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ قوله: ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ يعني: في أي مكان كنتم من البلد في وسطها أو أطرافها تأكلون ما تشاؤون. وقوله: ﴿رَغَدًا﴾ أي: طمأنينة وهنيئًا لا أحد يعارضكم في ذلك ولا يمانعكم، ولا يقال: إن هذا مثلًا يخالف قول الرسول ﷺ: «أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي»[[متفق عليه: البخاري (٣٣٥)، ومسلم (٥٢١ / ٣) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.]] نقول: لأنها ما هي غنائم هذه، ولكنه أبيح لهم أن يأكلوا من هذه الأرض سواء كان بطريق الشراء، أو بطريق المعاملة المزارعة أو ما أشبه ذلك (...). ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ﴾ أي باب؟ باب القرية، الباب يعني باب القرية؛ لأن القرى يجعل لها أبواب تحميها من الداخل والخارج. وقوله: ﴿الْبَابَ﴾ هذه (أل) للعهد، أي عهد هو؟ * طالب: ذهني. * الشيخ: ذهني؛ لأنه ما سبق ذكره وليس حضوريّا؛ لأنه ليس بحاضر فيكون ذهنيًّا ويكون مفهومًا من قوله: ﴿الْقَرْيَةَ﴾؛ لأن القرية لها باب. وقوله: ﴿سُجَّدًا﴾ منصوب على أنه حال من الواو في ﴿ادْخُلُوا﴾. ما المراد بهذا السجود؟ قيل: المراد به الخضوع، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ [الحج ١٨] إلى آخره، فالمراد به الخضوع. وقيل: المراد به الركوع كقوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف ١٠٠]، وقيل: المراد به السجود حقيقة؛ لأنه ظاهر اللفظ، وعلى هذا القول لا يُسَلَّم بأن معنى الآية: ﴿للَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ أن معناها مطلق الخضوع، بل هو سجود، ولكل أحد سجود يناسبه، وكذلك أيضًا لا يسلم بأن قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أي: ركعوا له بل إنما هم سجدوا حقيقة؛ لأن قوله: ﴿خَرُّوا﴾ يدل على ذلك، وعليه إذا قلنا بأن المراد بقوله: ﴿سُجَّدًا﴾ أي: سجود حقيقة على الأرض يكون فيه إشكال؛ لأن دخولهم في هذه الحال متعذر إذ إن الإنسان إذا كان ساجدًا ما يستطيع يدخل، هو ثابت في مكانه أليس كذلك؟ ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ كيف يدخلون الباب سجدًا؟ فيقال: الجواب على ذلك بسيط: هذه الحال ليست حالًا مقارنة، بل هي حال في المستقبل؛ لأن الحال تارة تكون مقارنة للفعل، وتارة تكون متأخرة عنه، فالمراد: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله تعالى شكرًا على هذه النعمة؛ ولهذا «لما فتح الرسول ﷺ مكة صلى ثماني ركعات ضحى»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٥٧)، ومسلم (٣٣٦ / ٧١) من حديث أم هانئ.]]، من العلماء من قال: إنها سنة الضحى، ومنهم من قال: إنها سنة الفتح، وجعل هذا الفتح له سنة، إن الإنسان إذا دخل يصلي، وهذا أقرب؛ لأننا إذا قلنا بأن المراد بالسجود حقيقته لم نخرج عن ظاهر اللفظ، والواجب علينا في تفسير القرآن وفي شرح الحديث أن نأخذ بأيش؟ بظاهر اللفظ ما لم يمنع منه مانع، إن منع منه مانع وإلا فالواجب الأخذ بظاهره، إذن سجدًا ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ يعني: فإذا دخلتموه فاسجدوا حالًا بدون تأخير. ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ يعني: قولوا هذه الكلمة، يعني حطة، وحطة اسم هيئة من الحط وهو التنزيل، ومنه قولكم: حُطَّ رَحْلُه أو حَطَّ رَحْلَه أي: أنزله، ومنه ما ورد في حديث الدعاء في سجود التلاوة «وَاحْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا»[[أخرجه الترمذي (٥٧٩)، وابن ماجه (١٠٥٣)، وابن خزيمة (٥٦٣).]] فهم قيل لهم حطة أي فعلة من الحط، وهو التنزيل، والمراد: احطط عنا ذنوبنا فهي بمعنى: قولوا ربنا اغفر لنا، يعني اطلبوا المغفرة من الله سبحانه وتعالى إذا دخلتم وسجدتم، فهمتم ولَّا لا؟ إذن معنى حطة: احطط عنا ذنوبنا. * طالب: شيخ سجود الشكر هل فيه صلاة ولا؟ * الشيخ: لا، مستقل. * الطالب: سجدة ولا سجدتين؟ * الشيخ: لا، سجدة واحدة. ﴿قُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي: احطط عنا ذنوبنا، وهو عبارة عن الاستغفار، وأيش إعراب (حطة)؟ * طالب: مفعول به. * الشيخ: طيب، مش المفروض تكون منصوبة؟ يقولون: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: سؤالنا حطة، أو مسألتنا حطة أي: مسألتنا أن تحط ذنوبنا، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب مقول القول. ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ﴾ وفي قراءة: ﴿تُغْفَرْ لَكُمْ﴾ وفي قراءة ثالثة: ﴿يُغْفَرْ لَكُمْ﴾ ففيها ثلاث قراءات: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ فيها: ﴿تُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ ، فيها: ﴿يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ وكلها قراءات صحيحة بأيها قرأت أجزأك. وقوله: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ المغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه، ستر الذنب يعني معناه: أن الله يستر ذنبك ويتجاوز عنك فلا يعاقبك عليه، هذه هي المغفرة؛ لأنها مأخوذة من المغفر، وأيش هو المغفر؟ ما يوقى به الرأس في الحرب كذا؟ * طالب: خوذة تسمى يا شيخ؟ * الشيخ: إي نعم، تسمى خوذة، هذا المغفر؛ لأنه يستر ويقي، ومن فسر المغفرة بمجرد الستر فليس بصحيح؛ لأن الله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه قال: «قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[[متفق عليه: البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.]] يعني: أتجاوز وأسترها أيضًا. وقوله: ﴿خَطَايَاكُمْ﴾ جمع خطيئة، الخطايا جمع خَطِيَّة كمطايا جمع مَطِيَّة، والخطية ما يرتكبه الإنسان من المعاصي عن عمد، هذه الخطيئة، ما يرتكبه من المعاصي عن عمد، وأما ما يرتكبه عن غير عمد فيسمى إخطاء؛ ولهذا فرق بين مخطئ وخاطئ، الخاطئ ملوم، والمخطئ معذور، قال الله تعالى: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق ١٥، ١٦] وقال: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة ٢٨٦] أخطأنا فهو مخطئ، أخطأ فهو مخطئ، وخَطِئ فهو خاطئ، فالخطية والخطيئة ما يرتكبه الإنسان من مخالفة عن عمد، فإن كان عن جهل فهو إخطاء وليس خطيئة، شوف الآن لو فعلوا ذلك غفرت لهم خطاياهم، زيادة على ذلك: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ هذا فوق مغفرة الخطايا، فضل. وقوله: ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين يقومون بالإحسان، والإحسان فسره رسول الله ﷺ: «بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه: البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة، ومسلم (٨ / ١) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.]] فمن عبد الله على هذا الوجه فهو محسن ولا شك أنهم لو قاموا بما أمروا به لكانوا محسنين، ولكن ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ شوف، ما قالوا: حطة بدلوها ﴿بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ يعني: قوله: ﴿بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا﴾ هذا في الحقيقة فيه إشكال؛ لأنهم هم بدلوا القول غير الذي قيل لهم ولَّا بدلوا القول الذي قيل لهم؟ * طالب: قالوا غير الذي قيل لهم. * الشيخ: بدلوا القول الذي قيل لهم ولَّا بدلوا قولًا غير الذي قيل لهم؟ * الطالب: قولًا غير الذي قيل لهم، قالوا غير الذي قيل لهم. * الشيخ: إي، لكن كلمة (بدَّل)، تقول: بدلت الشاة بالخروف؟ * طالب: بدلوا القول الذي قيل لهم. * الشيخ: إي، وهنا يقول: ﴿بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾. * الطالب: نفسه. * الشيخ: لا، ما هو بنفسه، هنا فرق ﴿بَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾. * طالب: يعني: قالوا غير الذي قيل لهم؟ * الشيخ: هو معني قالوا معروفة، لكن نريد نأخذ المعنى من اللفظ، نشوف الآن هل في الآية قلب ولَّا فيها تضمين؟ إذا أخذنا بظاهر اللفظ يصير: بدلوا قولًا غير الذي قيل لهم، مع أنهم بدلوا هم القول الذي قيل لهم، بدلوه بقول آخر، إذن اختلف الناس في تخريج هذه الآية فقيل: إن معنى (بدَّل) أي: قالوا، فقال الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم تبديلًا يعني معناه قصدهم التبديل والمخالفة، لا أنهم أخطؤوا أو نسوا أو ما أشبه ذلك، يصير هنا التبديل من أحسن ما يكون؛ لأنه تضمن أنهم قالوا قولًا غير الذي قيل لهم ولَّا لا؟ وقالوه بقصد أيش؟ التبديل والمخالفة، بقصد التبديل والمخالفة، وهذا أشد مما لو قالوه نسيانًا أو ما أشبه ذلك، وإنما قالوه تبديلًا، يصير هنا، ضمن (بدَّل) معنى (قال)، ولكن عبر بالتبديل عن القول؛ لأجل أن يتبين أن هؤلاء الذين قالوا غير الذين قيل لهم غرضهم بذلك التبديل، أي المخالفة. وقال بعضهم: إن الآية فيها حذف والتقدير: فبدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولًا غير الذي قيل لهم، فيكون في الآية حذف، تقدير: فبدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولًا غير الذي قيل لهم، ولكن ما دام يمكن تخريج الآية بدون حذف فهو أولى من تخريجها على أمر فيه حذف. يكون هنا (بدَّل) بمعنى (قال)، ولكنه عبر عن القول بالتبديل إشارة إلى أي شيء؟ * طالب: إلى المخالفة. * الشيخ: قالوا ذلك من أجل المخالفة والتبديل والتغيير. وقوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا﴾ ما قال: فبدلوا، أو فبدلتم بل أظهر في موضع الإضمار، وللإظهار في موضع الإضمار فوائد، أما فهمتم؟ ما قال: فبدلتم (...) فبدلتم، أو قال: فبدلوا، بل قال: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أظهر في موضع الإضمار، وللإظهار في موضع الإضمار فوائد، من يعرفها؟ مرت علينا. * طالب: التشنيع. * الشيخ: كيف التشنيع؟ * الطالب: شدة، أو قبح هذا الفعل. * الشيخ: يعني صدق اتصاف هؤلاء بهذا الوصف، يعني معناه أن أي مكان في موضع الإظهار فإن له فوائد: * الفائدة الأولى: تحقق أو تحقيق اتصاف محل المضمر بهذا الوصف، يعني معنى ذلك أن هؤلاء يكونوا ظالمين، معناه الحكم على هؤلاء بالظلم هذه فائدة، إذن فائدتها الحكم على مرجع الضمير بهذا الوصف الذي أُظهِر. واضح؟ * ثانيًا: أن هذا مقياس لغيرهم أيضًا، فكل من بدل قولًا غير الذي قيل له، فهو ظالم فيؤخذ منه تعميم الحكم بعموم علة الوصف واضح هذا لفائدتين، قد يكون هناك فوائد أخرى يمكن تيجي في آخر الآية. * الطالب: بس التبديل (...) أصلًا نحن مأمورين بالإسلام طبعًا أو مأمورين بالصلاة واحد يترك الصلاة، يكون يعني كل شيء اللي يكون طريقه غير طريق الإسلام، هذا التبديل؟ * الشيخ: هذا التبديل، ما الذي قالوا بدل أمر الله لهم بأن يقولوا: حطة؟ قالوا كما ثبت في الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام «حِنْطَةٌ فِي شِعِيرَةٍ»[[متفق عليه: البخاري (٤٤٧٩)، ومسلم (٣٠١٥ / ١). وأحمد (٨١١٠) من حديث أبي هريرة ولفظه: «فِي شَعَرَةٍ».]] بدلًا من أن يطلب منهم أن يسألوا الله مغفرة الذنوب، قالوا: لا، نبغي طعامًا، نبغي أكل حنطة في شعيرة، إذن فرق بين هذا وهذا، الله أمرهم أن يستغفروا من ذنوبهم التي ارتكبوها، وهؤلاء طلبوا أمرًا يملؤون به بطونهم، دخول الباب سجدًا، يقول ابن عباس وغيره: إنهم دخلوا زحفًا على أدبارِهم[[في الحديث السابق: فدخلوا يزحفون على أستاههم.]] -أعوذ بالله- استهزاء بالله سبحانه وتعالى الذي أمرهم أن يدخلوا سجدًا شكرًا لله على نعمة الفتح، قالوا: لا ولا ندخل ولا نمشي، نمشي على أدبارنا -أعوذ بالله- يعني يزحفون زحفًا. وبعضهم ذكر: إنهم رجعوا على الوراء أيضًا ما مشوا مستقبلين، وأما القول فبدلوه أيضًا، فبدلوا القول والفعل، بدلوا القول والفعل. وقد حصل هذا لبعض هذه الأمة كان صوت العرب إبان حرب الأيام الستة -كما تقول اليهود- كان يقول: غدًا تغني أم كلثوم في تل أبيب، يعني: شكرًا لله على هذه النعمة، إن المغنية تروح تغني البلاد المفتوحة، لكن في الحقيقة غنت طائرات اليهود على طائرات هذا القائل، فصار الأمر بالعكس والحقيقة أنها مثل سوء، لأن هذا يشبه قول أبي جهل: لا نرجع حتى نبلغ بدرًا ونسقي الخمور وتضرب علينا الخيام[[انظر إمتاع الأسماع (١ / ٩٠-٩١)، الدرر في اختصار المغازي والسير (ص١١٣)، الفصول في سيرة الرسول ﷺ (ص٣٠) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء (٢ / ١٦).]]، شوف يعني أهداف العرب الآن من هذه الحرب مع اليهود، كيف هي؟ مجرد أمر دنيوي فقط أن يغلبوا ويستولوا، لكن لإقامة دين الله، لا؛ لأن الذي يقيم دين الله إذا فتح بلاد الله يخلي المغنيات يغنين في يوم فتح؟ الرسول عليه الصلاة والسلام «دخل عام الفتح وهو مطأطئ الرأس حتى إن عليه الصلاة والسلام، إن هذه العنفقة تكاد تمس الرحل من شدة خفض رأسه عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ القرآن: » ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾، فيه فرق بين هذا وهذا، إي نعم، فأقول: إن من هذه الأمة من فعل مثل هؤلاء اليهود ما دخلوا خاضعين ساجدين، ولا قائلين: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [آل عمران ١٤٧]، ولكنهم قالوا: ندخل نغني تصحبنا القيان يغنين علينا، وهذا مصداق قول الرسول ﷺ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ».[[أخرجه البخاري (٧٣٢٠)، ومسلم (٢٦٦٩) من حديث أبي هريرة بلفظ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ».]] ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. * يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾: نعمة الله تبارك تعالى بما هيأه لعباده من الظل، فإن الظل عن الحر من نعم الله على العبد؛ لقوله: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ وقال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾ [النحل ٨١] تكنكم عن الحر وعن البرد أيضًا. * وفيه أيضًا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى؛ حيث جعل الغمام ظلًّا على هؤلاء وأنه هو الذي يسوق الغمام ويدبره تبارك وتعالى كما يشاء. * وفيها أيضًا بيان نعمة الله على بني إسرائيل بإنزال المن والسلوى طعام وشراب يأتيهم بدون تعب وبدون مشقة؛ ولهذا وصف بالمن. * وفيه أيضًا دليل على أن لحم الطيور من أفضل اللحوم؛ لأن الله هيأ لهم هذه الطيور لم يهيأ لهم ظباء ولا أرانب وإنما هيأ لهم الطيور، وهو أيضًا لحم أهل الجنة ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [الواقعة ٢١]. * وفيه أيضًا دليل على أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بنعمة فينبغي أن يتبسط بها، ولا يحرم نفسه منها؛ لقوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ فإن الإنسان ما ينبغي أن يتعفف عن الشيء المباح؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: من امتنع من أكل الطيبات لغير سبب شرعي فهو مذموم، وهذا صحيح؛ لأنه ترك ما أباحه الله له، وكأنه يقول: إنه لا يريد أن يكون لله عليه منة، فالإنسان ما ينبغي أن يمتنع عن الطيبات إلا لسبب شرعي، والسبب الشرعي قد يكون لسبب يتعلق ببدنه، وقد يكون لسبب يتعلق بدينه، وقد يكون لسبب يتعلق بغيره، قد يمتنع الإنسان من اللحم؛ لأن بدنه لا يقبله فيكون تركه له من باب الحمية، قد يترك الإنسان اللحم؛ لأنه يخشى أن تتسلى به نفسه حتى يكون همه أن يذهب طيباته في حياته الدنيا، قد يترك الإنسان الطيب من الرزق مراعاة لغيره مثل ما يذكر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة عام الجدب المشهور[[انظر الآحاد والمثاني (١ / ١٣٨) (١١٣).]] أنه كان لا يأكل الخبز إلا بالنبيذ ما يأكله باللحم؛ لأنه ما يمكن، يقول: ما يمكن أن أشبع من اللحم، والأمة جائعة، فيكون ذلك لغيره، المهم أنه إذا امتنع من الطيبات بسبب شرعي فليس بمذموم، وإن امتنع منها تعففًا فإنه مذموم. * وفيه أيضًا دليل على أن بني إسرائيل كفروا هذه النعمة؛ لقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. * وفيه من الفوائد أن العاصي لا يظلم الله وإنما يظلم نفسه، لكن يصح أن نقول: هذا الرجل ظالم لنفسه في حق الله، وفي حق الناس ما نقول: ظالم لله، ظالم لنفسه في حق الله، وفي حق الناس. * فيها أيضًا فوائد: أن كل ما حصل مما نأكل فهو من رزق الله كقوله: ﴿مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. * وفيه أن المباح من الرزق هو الطيب؛ لقوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ﴾، وأن الخبيث لم يأمر الله تعالى بأكله، بل إنه حرمه. ثم قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ * فيه إثبات القول لله عز وجل، وهذا القول على لسان من؟ موسى، ففيه إثبات القول وأن الله يقول، وهو قول صحيح حقيقي ولَّا مجازي؟ حقيقي بصوت وبحرف، لكن صوته سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء من أصوات المخلوقين، ولا يمكن للإنسان أن يتخيله هذا الصوت لأنه عظيم. * وفيه أيضًا دليل على أن الله تعالى أباح لبني إسرائيل دخول بيت المقدس؛ لقوله: ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾. * وفيه أيضًا وعد الله لهم بدخولها، من أين يؤخذ الوعد؟ من الأمر بالدخول يعني كأنه يقول: فتحنا لكم الأبواب فادخلوا. * وفيه أيضًا دليل على جواز أكلهم -أي بني إسرائيل- من هذه القرية التي دخلوها، ولكن بعوض ولَّا بغير عوض؟ * الطلبة: بعوض * الشيخ: إي نعم، ما يباح لهم الغنائم كما يباح لنا، ولكن معناه أن لكم أن تأكلوا منها حيث شئتم رغدًا هنيئًا لم يحجر عليكم، إنما ليس على سبيل الغنيمة، ويمكن أن يقال لهم أن يأكلوا ولا يملكوا، ولا يتملكوا، ويصير هذا ليس من باب الغنيمة مثلما إني إذا مررت في الشريعة الإسلامية إذا مررت ببستان فلي أن آكل، ولكن ما أتملك، الخصوصية التي اختصت بهذه الأمة هي ملك الغنيمة، أما أن ينتفعوا من ثمار البلاد التي دخلوها فهو جائز لهم حتى في شريعتهم. * وفيه أيضًا دليل على أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الذل والخضوع؛ لقوله: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾، وقد كان الرسول ﷺ حين فتح مكة دخلها مطأطئًا رأسه، ولما قال: سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: «كَذَبَ سَعْدٌ بَلِ الْيَوْمَ تُعَظَّمُ الْكَعْبَةُ»[[البخاري (٤٢٨٠) من حديث عروة، وانظر دلائل النبوة للبيهقي (٥ / ٣٩).]]، «ثم أخذ الراية منه وأعطاها ابنه قيس بن عبادة » تعزيرًا له لما قال هذه الكلمة، وإن كان قد قالها بحسن قصد لكن بغير فهم، والنبي عليه الصلاة والسلام بين أن اليوم هذا ما هو بتستحل الكعبة، بل هو تعظيم الكعبة؛ لأنه تطهيرها من الأصنام، وتحويل البلاد إلى بلاد إسلامية بعد أن كانت بلاد كفر، فهل هذا فيه استحلال الكعبة؟ أبدًا، بل فيه تعظيم الكعبة، لكن فيه استحلال الطغاة المعتدين على الكعبة ولَّا لا؟ إي نعم، هذا صحيح. * وفي هذا دليل على لؤم بني إسرائيل، ومضادتهم لله ورسله؛ لأنهم لم يدخلوا الباب سجدًا، بل دخلوا يزحفون على أستاههم، يرجعون وراء، يزحفون هم يرجعون وراء -أعوذ بالله- استكبارًا واستهزاء، وقالوا: بدل حطة أيش؟ حنطة في شعرة أو في شعيرة، نبغي بس شيء نملأ بطوننا، ما نبغي مغفرة ذنوبنا، والعياذ بالله. * وفيه دليل على قبح التأويل والتحريف؛ لأن هؤلاء حرفوا، وقد شبه ابن القيم رحمه الله (لام) استولى عند الجهمية بـ(نون) اليهود في (حنطة)، المعتزلة والجهمية والأشعرية أيضًا قالوا: استوى أي استولى، فاللام في (استوى) عندهم التي زيدت مثل النون التي زيدت في (حطة)، قالوا: حنطة، قالوا: حنطة وهذا صحيح، فهم حرفوا في الحقيقة، بنو إسرائيل حرفوا اللفظ والمعنى، وأولئك حرفوا المعنى؛ لأنهم ما يستطيعون أن يحرفوا اللفظ؛ إذ إنهم لو حرفوا لفظ القرآن لقامت عليهم الأمة وعرف ضلالهم؛ إذن فيه بيان قبح التحريف، تحريف الكلم عن مواضعه سواء كان لفظيًّا أو معنويًّا. * وفيه أيضًا أن الجهاد مع الخضوع لله عز وجل والاستغفار سبب للمغفرة؛ لقوله: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾، وللاستزادة أيضًا من الفضل لقوله؟ ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾. * وفيه أيضًا دليل على أن الإحسان سبب للزيادة، سواء كان إحسانًا في عبادة الله أو إحسانًا إلى عباد الله؛ فإن الإحسان سبب للزيادة، وقد ثبت عن الرسول ﷺ أنه قال: «اللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٩٩) من حديث أبي هريرة.]] «وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ»[[متفق عليه: البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠ / ٥٨) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.]]. * * * ثم قال الله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة ٥٩]. قال: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فيه دليل على تحريم التبديل في كلمات الله وهو تحريفها، من أين يؤخذ؟ من وصفهم بالظلم ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا﴾. * وفيه دليل على ذكر بعض الشيء ويستدل عليه ويستغنى به عن ذكر الثاني، يعني مثلًا هنا هل بنو إسرائيل خالفوا في القول؟ أو في القول والفعل؟ الآية الكريمة يقول﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ بالقول فقط، وسكت عن الفعل، لكنه قد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَي أَسْتَاهِهِمْ»[[متفق عليه: البخاري (٣٤٠٣)، ومسلم (٣٠١٥ / ١).]] فيكون قد بدلوا القول والفعل، فإذن يمكن أن يقال: بدلوا قولًا غير الذي قيل لهم بمعنى جعلوا قول الله عز وجل اللي فيه الأمر بالسجود، والأمر بسؤالهم الحطة بدلو هذا القول كله يعني يكون المراد ما هو بنفس القول اللي هو قسيم الفعل، ولكن بدلوا قول الله بقول آخر، كأنه قيل لهم قول غير الذي قيل لهم، فإذن يكون التبديل تبديل القول فقط ولَّا تبديل الفعل فقط ولَّا الفعل والقول؟ * الطلبة: الفعل والقول. * الشيخ: لا لا، ما هو موجب في القرآن القول، إحنا نقول: موجب القرآن القول، إن قلنا: إن قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ أي: بدلوا بالقول قولًا بمعنى اعتاضوا عما يقولون هم، اعتاضوا عما يقولون قولًا آخر؛ حينئذ لو فسرنا الآية بهذا التفسير يكون سكت عن الفعل الذي جعلوه بدلًا عما أمروا به، أما إذا قلنا: إن معنى قوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ يعني: معناه حولوا كل ما قيل لهم إلى قول آخر، يعني كأنهم أمروا بأن يزحفوا على أستاههم، وأن يقولوا: حنطة في شعرة، فكأنهم بدلوا أصل القول الذي قيل بقول آخر امتثلوه، وعلى هذا فتكون الآية شاملة لتبديل القول والفعل، شاملة لتبديل القول (...)، ولا يبقى فيها إشكال، وفي الحقيقة حتى لو فرض أننا فسرناها بالأول، وأنهم قالوا غير ما قيل لهم، فإن الحديث صحيح في ذلك وصريح أنهم أيضًا بدلوا الفعل. * الطالب: ذكر بعض الشيء يستغنى عن الآخر؟ * الشيخ: هذا إذا قلنا: إن القول الذي بدلوه يعني القول الواقع منهم، أما إذا قلنا: إنهم بدلوا قولًا غير الذي قيل لهم أي جعلوا أمر الله لهم أمرًا لشيء آخر، وهو ما فعلوه، يعني كأنهم حرفوا أمر الله أي قول الله، فحينئذ ما يصير من باب ذكر أحد الطرفين استغناء به عن ذكر الآخر، والله أعلم بما أراد في كلامه. قال الله تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ قوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا﴾ الفاء للسببية، فهمتم؟ يعني فبسبب ما حصل منهم من التبديل أنزلنا. وقوله: ﴿عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي عليهم، وهذا من باب الإظهار في مقام الإضمار، وقد ذكرنا في الدرس الماضي أن له ثلاث فوائد؟ * طالب: ما حضرت. * الشيخ: ذكرنا فائدة الإظهار في موضع الإضمار؟ * طالب: الإظهار في مقام الإضمار: التنبيه (...). * طالب: أولًا الحكم على هؤلاء، أو تخصيص هؤلاء بالحكم. * الشيخ: لا الحكم عليهم بما دل عليه هذا الظاهر، وهم أنهم ظلموا، هذه واحد. * الطالب: الثاني: أن هذا الوصف عموم الوصف بعموم الحكم، عموم الحكم بعموم الوصف. * الشيخ: يعني معناها أنه من أجل أن يكون.. * الطالب: عاما لهم ولغيرهم. * الشيخ: من أجل أن يكون عامًّا لهم ولغيرهم، ثالثًا، ما ذكرنا إلا هذه؟ * الطالب: التنبيه. * الشيخ: لا، التنبيه هذا ذكرناه -بارك الله فيكم- فيما إذا حصل التفات، التفات إذا ظهر من الغيبة للحضور أو بالعكس. * الطالب: وهذا (...) للتأكيد؟ * الشيخ: ربما يحصل فيها انتباه عندما أن الإنسان يكون نسق الكلام على أنه يؤتى بالضمير، ثم يؤتى بالاسم الظاهر، قد يكون هذا لفت نظر، أن الإنسان ينتبه، يقال: لأيش جاء الظاهر مع أن سياق الكلام يقتضي الضمير، ربما يكون كذلك. * الطالب: (...). * الشيخ: لكن على كل حال المسألة يراد بها العموم؛ لأجل أن يعم هذا الحكم من شابههم. * الطالب: في الوصف. * الشيخ: والثاني: الحكم عليهم بما يقتضيه هذا الاسم الظاهر أي أنهم ظلموا. وقوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا﴾ أي: عذابًا؛ لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾، قال فرعون لموسى: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف ١٣٤] يعني: العذاب وهو غير الرجس؛ لأن الرجس النجس القذر، والرجز العذاب. وقوله: ﴿رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي عذابًا منها، مثل أيش ينزل من العذاب من السماء؟ كالحجارة، الصواعق، البرد وغيرها. * طالب: الرياح. * الشيخ: نعم. وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ المراد بالسماء هنا العلو، ولا يلزم أن تكون السماء المحفوظة؛ لأن كل ما علاك فهو سماء ما لم يوجد قرينة، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء ٣٢]. قال: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ الباء هنا للسببية أي: بسبب، و(ما) مصدرية أي بكونهم فسقوا، إذا كانت مصدرية فقد مر علينا أن حرف المصدر يحول ما بعده من الفعل بل من الجملة إلى مصدر، وقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ كانوا فيما مضى أو المقصود بها (...).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب