الباحث القرآني

فَصَلَ عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون: فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصدّ ونحوهما. والمعنى: انفصل عن بلده بِالْجُنُودِ روى أنه قال لقومه: لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجرى اللَّه لهم نهراً، ف قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بما اقترحتموه من النهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه فَلَيْسَ مِنِّي فليس بمتصل بى ومتحد معى، من قولهم: فلان منى، كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما. ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ومن لم يذقه، من طعم الشيء، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء، لمذاقه. قال: وَإنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نَقَاخًا [[قوله «لم أطعم نقاخا» هو الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده. والنقخ: النقف. وهو كسر الرأس عن الدماغ. (ع)]] وَلَا بَرْدَا [[فان شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا للعرجى. وتاء شئت يحتمل أنها للمتكلم، وأنها للمخاطبة وهو أبلغ. وخاطب الواحدة بلفظ جمع المذكر تعظيما. ولم أطعم: أى لم أتناول. والنقاخ- بالقاف والخاء المعجمة-: الماء العذب البارد. والبرد: النوم، وعن بعض العرب: منع البرد البرد، وهو من باب الجناس التام، والعرجى: هو عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، نسبة لعرج الطائف.]] ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم. ويقال: ما ذقت غماضا. ونحوه من الابتلاء: ما ابتلى اللَّه به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعا، بل هو أشد منه وأصعب. وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي. وإن كان نبيا- كما يروى عن بعضهم- فبالوحى. وقرئ (بنهر) بالسكون. فإن قلت: ممَّ استثنى قوله إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ؟ قلت: من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) [[قال محمود رحمه اللَّه: «مستثنى من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ... الخ» : قال أحمد رحمه اللَّه: وفي هذه الآية تقوية لمن ذهب إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل لا يتعين عوده إلى الأخيرة لاحتمال عوده إلى ما قبلها. ورد على من منع ذلك محتجا بامتناع الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بأجنبى من الاستثناء. ولذلك حقق عوده إلى الأخيرة، وتوقف في انعطافه على ما تقدمها، فيجوز عنده أن يعود على الجميع مع الأخيرة. وأما عوده على ما قبل الأخيرة دونها فمتعذر عند هذا القائل فلم يصف في العود إلى الأخيرة لهذه الشبهة. وقد بين القاضي أبو بكر صلاحية عوده إلى ما قبل الأخيرة دونها ردا على هذا القائل، واستشهد بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) ووجه استشهاده: أن المعنى يأبى انعطاف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ويعين عوده إلى ما قبلها وسيأتى بيان ذلك عند الكلام على الآية.]] والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم (وَالصَّابِئُونَ) في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله فَشَرِبُوا مِنْهُ أى فكرعوا فيه إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وقرئ (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف. وقرأ أبىّ والأعمش: إلا قليل، بالرفع. وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية. فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق: ............... لمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ [[إليك أمير المؤمنين رمت بنا ... شعوب النوى والهوجل المتعسف وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف للفرزدق. يقول: يا أمير المؤمنين، قذفتنا إليك طرق البعد، لكن الرامي به في الحقيقة دواعي النفس، فاسناد الرمي إلى الشعوب مجاز عقلى: أو شبه الطرق بمن يصح منه الرمي على سبيل المكنية، والمراد بالرمي البعث مجازاً، والهوجل: الطويل الأحمق، أى البعير المتعسف الحائد عن سنن الطريق، أو الطريق الطويل المعوج، فهو عطف خاص على عام. وشبه الزمان المجدب بذي ناب على طريق المكنية، وإسناد العض له تخييل. والمسحت: البقية القليلة من الشيء، يقال سحته وأسحته إذا استأصله، والأولى لغة الحجاز، والثانية لغة نجد. والمجلف: المنقرض من جوانبه، يقال جلفه كنصره إذا قشره أو قطعه. والجائفة أبلغ من الجالفة، وقيل: المسحت والمجلف، الذي أخذ منه ماله أو هلك منه، وكان الواجب نصب الاستثناء لأنه لا وجه للرفع، لكن روعي فيه معنى النفي فرفع، أى لم يبق من المال إلا هما. وروى: إلا مسحتا أو مجلف، فرفع الثاني عطفا على المعنى. روى أنه سئل: لم خالفت بينهما فقال: قلت ذلك لتشقى به النحويون. ونداء عبد الملك بن مروان في الموضعين للتعظيم والاستعطاف.]] كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وَالَّذِينَ آمَنُوا يعنى القليل قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ يعنى الخلص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاء اللَّه وأيقنوه. أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون اللَّه، والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة. وقيل: الضمير في: (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا) للكثير الذين انخذلوا، والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما. يظهر أولئك عذرهم في الانخذال، ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به. وروى أنّ الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب