الباحث القرآني

جمع الله له الاستجابتين معا في قوله كَلَّا فَاذْهَبا لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقوله فَاذْهَبا أى اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون. فإن قلت: علام عطف قوله فَاذْهَبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظنّ، فاذهب أنت وهرون. وقوله مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجرى بينكما وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون مُسْتَمِعُونَ مستقرا، ومَعَكُمْ لغوا. فإن قلت: لم جعلت مُسْتَمِعُونَ قرينة مَعَكُمْ في كونه من باب المجاز، والله تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ويقال: استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أى: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله ﷺ [[لم أجده بهذا اللفظ، والمحفوظ «صب في أذنيه الآنك» وهو الرصاص. وذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ: «البرم الدم» وقال: هو الكحل المذاب. قلت: وإنما تلقاه ابن الأثير عن الفائق، فرجع إلى الزمخشري.]] «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» [[قوله «صب في أذنيه البرم» في الصحاح «البرم» : ثمر العضاء. (ع)]] . فإن قلت: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ؟ قلت: الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه- إذا وصف به- بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو: صوم، وزور. قال: ألكنى إليها وخير الرّسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر [[لأبى ذؤيب. وألاكه يليكه: إذا أرسله. والمصدر إلاكة، فالهمزة زائدة. والأصل: لاك يلوك، كقام يقوم. وأما ألكه: إذا أرسله أيضا، فمصدره: ألوكة وأليكة ومألكة، بضم اللام وفتحها. ومألك بضمها. وقيل: ألاكه، إذا تحمل رسالته. فالمعنى: أرسلنى، أو تحمل رسالتي إليها. ويروى: إليه: أى: إلى ذلك الأمر. والرسول في الأصل مصدر، فجاز إفراده مع تعدد معناه، ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم. وشبه الخبر بمكان ذى جهات على طريق المكنية. والنواحي تخييل. أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحى على طريق التصريحية، يعنى أنه أعلم من غيره بذلك.]] فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول [[حلفت برب الراقصات إلى منى ... خلال الملا يمددن كلّ جديل لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول فلا تعجلي يا عز أن تنفهمى ... بنصح أتى الواشون أم بحبول لكثير صاحب عزة. والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، خلال الملا: أى في أثناء الناس. والجديل الرسن في عنقها تمده به. والواشي: الذي يحسن الكلام ويموهه، ويخلط الصدق بالكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه. و «ما» نافية، أى: ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم إلى أحد برسول، أى برسالة، فهو في الأصل مصدر. وقد يطلق على المرسل، وهو الظاهر في رواية، «ولا راسلتهم برسول» أى لا شافهتهم بالسر ولا أرسلت إليهم رسولا به، وهذه الرواية أوفق بالمقابلة. ويمكن أن أرسلتهم بمعنى أرسلت إليهم، والأصل: يا عزة، فرخم بحذف التاء، أن تنفهمى، أى: في أن تنفهمى. أو لأجل أن تنفهمى، بنصح، أى: أبنصح أتى الواشون إليك، أم بحبول: جمع حبل بالكسر: وهي الداهية العظيمة، ولا أدهى من الكذب.]] ويجوز أن يوحد، لأنّ حكمهما لتساندهما واتفاقهما على شريعة واحدة، واتحادهما لذلك وللإخوة كان حكما واحدا، فكأنهما رسول واحد. أو أريد أنّ كل واحد منا أَنْ أَرْسِلْ بمعنى: أى أرسل، لتضمن الرسول معنى الإرسال. وتقول: أرسلت إليك أن افعل كذا، لما في الإرسال من معنى القول، كما في المناداة والكتابة ونحو ذلك. ومعنى هذا الإرسال: التخلية والإطلاق كقولك: أرسل البازي، يريد: خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له أَلَمْ نُرَبِّكَ حذف: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، لأنه معلوم لا يشتبه. وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل. الوليد: الصبى لقرب عهده من الولادة. وفي رواية عن أبى عمرو: من عمرك، بسكون الميم سِنِينَ قيل: مكث عندهم ثلاثين سنة. وقيل: وكز القبطي وهو ابن ثنتى عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها، والله أعلم بصحيح ذلك. وعن الشعبي: فعلتك بالكسر، وهي قتلة القبطي، لأنه قتله بالوكزة وهو ضرب من القتل. وأما الفعلة، فلأنها كانت وكزة واحدة. عدّد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه، وعظم ذلك وفظعه [[قال محمود: «عدد نعمته عليه ووبخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وفظعه عليه بقوله: وفعلت فعلتك» قال أحمد: ووجه التفظيع عليه من ذلك أن في إتيانه به مجملا مبهما، إيذانا بأنه لفظاعته مما لا ينطق به إلا مكنيا عنه. ونظيره في التفخيم المستفاد من الإبهام قوله تعالى فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ومثله كثير، والله أعلم.]] بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ يجوز أن يكون حالا، أى: قتلته وأنت لذاك من الكافرين بنعمتي. أو أنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره، لأنه كان يعايشهم بالتقية، فإنّ الله تعالى عاصم من يريد أن يستنبئه من كل كبيرة ومن بعض الصغائر، فما بال الكفر. ويجوز أن يكون قوله وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ حكما عليه بأنه من الكافرين بالنعم، ومن كانت عادته كفران النعم لم يكن قتل خواص المنعم عليه بدعا منه. أو بأنه من الكافرين لفرعون وإلهيته. أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونهم، يشهد لذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وقرئ: إلهتك، فأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو مِنَ الضَّالِّينَ أى الجاهلين. وقراءة ابن مسعود: من الجاهلين، مفسرة. والمعنى: من الفاعلين فعل أولى الجهل والسفه. كما قال يوسف لإخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أو المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. أو الذاهبين عن الصواب. أو الناسين، من قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وكذب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، وبرّأ ساحته، بأن وضع الضالين موضع الكافرين ربأ بمحل من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية، فأبطله من أصله واستأصله من سنخه [[قوله «واستأصله من سنخته» في الصحاح «السنخ» الأهل، وسنخ في العلم سنوخا رسخ: وسنخ الدهر- بالكسر-: لغة في زنخ، إذا فسد وتغيرت ريحه. يقال: بيت له سنخة وسناخة اه. (ع)]] ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت، وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا. يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا. قال: علا م يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان [[علام: استفهام إنكارى عن العلة، أى: على أى شيء. وأعبدت الرجل وعبدته: إذا اتخذته عبدا. والأباعر: جمع بعير، يطلق على الذكر والأنثى من الإبل. والعبد: يجمع على عبدان بالكسر والضم وعبدى، بتشديد الدال مقصورا وممدودا. ومعبودا، وعباد، وأعبد، وعبيد، وعبد بضمتين وبفتحتين، يقول: لأى شيء يتخذونى عبدا، والحال أنه كثرت فيهم الإبل والعبيد بسببي، فليتخذوا منها ما شاءوا: بدل من الأباعر أو واقع موقع المصدر لكثرت، دلالة على التكثير. وفي هذه الحال: تهكم بهم ودلالة على حمقهم. ويجوز أن المعنى: والحال أن بعضهم كالأباعر، وبعضهم عبيد، فليكتفوا ببعضهم عنى. وقيل: يجوز أن التقييد بهذه الحالة، لأنها التي حملتهم على التكبر عليه.]] فإن قلت: إذا جواب وجزاء معا، والكلام وقع جوابا لفرعون، فكيف وقع جزاء قلت: قول فرعون: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازيا لك، تسليما لقوله، لأنّ نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. فإن قلت: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم؟ مع إفراده في تمنها وعبدت؟ قلت: الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده، وكذلك التعبيد. فإن قلت: تِلْكَ إشارة إلى ماذا، وأَنْ عَبَّدْتَ ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها. ومحل أَنْ عَبَّدْتَ الرفع عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ والمعنى: تعبيدك بنى إسرائيل نعمة تمنها على. وقال الزجاج: ويجوز أن يكون أَنْ في موضع نصب، المعنى: إنما صارت نعمة علىّ لأن عبدت بنى إسرائيل، أى: لو لم تفعل ذلك لكفلنى أهلى ولم يلقوني في اليم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب