الباحث القرآني

الصرُّ: الريح الباردة [[قال محمود: «الصر الريح الباردة ... الخ» قال أحمد: كلها أوجه وجيهة، وهذا الأخير أحسنها وأوجهها، لكن لم يبين الزمخشري وجه الظرفية في الأمثلة المذكورة، ونحن نبينها فنقول: إذا قلت مثلا: إن ضيعتي زيد ففي عمرو بعد اللَّه كاف، فقولك «كاف» أثبت به منكراً مجرداً من القيود المشخصة المخصصة، ثم جعلت المعين الذي هو عمرو محلا له، فشخصت ذلك المطلق المجرد بهذا المعنى، فهي ظرفية صحيحة، إذ كل مقيد ظرف لمطلقه، إذ المطلق بعض المقيد، فتنبه لهذه النكتة فإنها لطيفة، واللَّه الموفق.]] نحو: الصرصر. قال: لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ ... نَكْبَاءَ صِرً بِأصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ [[الأتاوى: الغريب البعيد، كأنه منسوب إلى الأتاوة وهي الرشوة والخفالة، لأنه قد يبذلها على إقامته في غير وطنه. والنكباء: الريح الشديدة. والصر الحارة، وقيل الباردة. وقال الزجاج: صوت النار في الريح. وقيل: صوت الريح. وقيل: الجو. وقيل: البرد. وعلى هذا لو روى بالجر على الاضافة لكان وجيها. والمحلات قيل هي أدوات البيت كالفأس والقدر والغربال والدلو. ويجوز أنها البيوت وهو الظل من البيت. يقول: لا تسو بين الغرباء وبين أصحاب البيوت. وروى: لا يعدلن أتاويون، بالبناء للمجهول، وما بعده نائب فاعل. ورواه الجوهري بالبناء الفاعل، وقال: أى لا يعدلن أتاويون أحداً بأصحاب المحلات، فحذف المفعول وهو مدان، وفسر المحلات فحذف الموصول وهو مدان، وفسر المحلات فيه بالأدوات كافة، لأن الأتاوي يستعيرها من أصحابها. وعلى كل فالنون للتوكيد.]] كما قالت ليلى الأخيلية: وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَإِ ... الْجِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ [[كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع من المتغور ولم يغلب الخصم الألد ويملأ ... الجفان سديفا يوم نكباء صرصر لليلى الأخيلية ترثى صاحبها توبة بن الحمير وتتذكر أحواله وتعد مناقبه. وفتى الفتيان: أى هو الفتى من بينهم وليسوا فتيانا بالنسبة له وإن كانوا فتيانا في أنفسهم، وتوبة بدل. ولم ينخ من أناخ بعيره، خبر كأن، أى كأنه لم ينخ بعيره بمحل مرتفع. ويروى: لم يسر بنجد، ولم يطلع من أطلع بمعنى طلع، أو لم يطلع بعيره من المتغور على اسم المفعول، أى المكان المنخفض ما فيه، وكأنه لم يغلب الخصم الشديد الخصومة. ويروى الخصم الصحاح بفتح الصاد، بمعنى الصحيح، وكأنه لم يملأ الجفان سديفاً، أى قطعاً بيضا من السنام في زمن الريح الشديدة الباردة، أو كثيرة الصرير وهو التصويت تعنى أنه كان يفعل ذلك كله، ثم كأنه اليوم لم يفعل لموته.]] فإن قلت: فما معنى قوله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ؟ قلت: فيه أوجه: أحدهما أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ، كما تقول: برد بارد على المبالغة. والثاني: أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث: أن يكون من قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي اللَّه كاف وكافل. قال: وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِى [[لقد زاد الحياة إلى حبا ... بنانى إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صاف وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف ولولا هن قد سويت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كافى لأبى خالد الخارجي. وقيل: لمحمد بن عبد اللَّه الأزدى. وقيل: لعمران بن حطان. وقيل غير ذلك لامه قطري ابن الفجاءة عن التخلف عن الحرب فاعتذر بذلك. وبناتي فاعل زاد. وأحاذر أى أخاف أن يدركهن الفقر بعد موتى، وكنى عن ذلك برؤيتهن له مبالغة، لأنه إذا خاف الرؤية خاف اللحوق. ويروى مخافة أن يذقن البؤس، أى الشدة، فشبهه بمطعوم على سبيل المكنية والذوق تخييل. ورنق الماء كدر، وترنق تكدر، ورنقه وأرنقه كدره، والرنق بالتحريك مصدر كالكدر فسكن وأريد منه الماء الكدر. وروى «زيفا» أى مغشوشا مكدرا، فالمراد واحد، فشبه العيش المنغص به، وشبه العيش الناعم بالماء الصافي على طريق التصريح والشرب ترشيح، وكسى بوزن فرح لازم ضد عرى. ويجوز هنا بناؤه للمجهول، من كسى المتعدي كدعا. وإن للشرط المجرد عن الشك أو بمعنى إذ. وتنبو ترتفع عنهن، كناية عن عدم التزوج بهن. والكرم بالسكون، وقيل- بالكسر- وصف من الكرم يقع على الواحد والمتعدد مذكراً ومؤنثا. ويروى «عن رم» أى باليات، وهو أشبه بالسياق. والعجاف جمع عجفاء، أى مهزولة، أى لا يلتفت إليهن مع كونهن كريمات لهزالهن ورثاثة حالهن. وسويت مهري: وضعت عليه آلات الحرب ومهدته وهيأته لها. ويروى «قد سموت مهري» ولعله بتخفيف الميم بمعنى علوت عليه وركبته وقيل: بمعنى وضعت عليه سمات الحرب، فلعله مقلوب. و «سمت» وروى سومت بالتشديد، وهو الذي يصلح أنه بمعنى جعلت عليه علامات الحرب لا ذاك، وجود من جانب اللَّه عز وجل شخصا كافيا، ولا حجر في المبالغة لا سيما على العرب. وفيه نوع استرجاع إلى اللَّه وتفويض إليه وتوكل عليه، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين.]] شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه اللَّه، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى اللَّه مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضاع عنهم، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث وْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ. فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه [[قال محمود «فان قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه ... الخ» قال أحمد: أما إيراد السؤال فلا ترتضي صيغته لما فيها من حيف بالأدب، إذ جزم السائل المقدر بأن كلام اللَّه تعالى غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد عن كتاب اللَّه تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة، لا بصيغة الاعتراض المحضة والعبارة الصحيحة أن يقال: فما وجه مطابقة الكلام للغرض. ولا ينبغي التساهل في ذلك، فان أحدنا لو أورد سؤالا على كلام إمام معتبر بمرأى منه ومسمع، تحيل في أنواع التلطف في إيراده وبعد عن أمثال هذه العبارة. ولعل الاعتراض على ذلك الامام يكون وارداً لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب اللَّه تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما يسئل عن كتاب اللَّه تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد وأن يتأدب في الإيراد ثم نعود إلى جواب الزمخشري الثاني وهو قوله «إن المراد مثل إهلاك ما ينفقون» فنقول: لم يكشف الغطاء بهذا الجواب عن المطابقة المسئول عنها، والسؤال باق. وذلك أن الريح المشبه بها ليست الإهلاك وإنما هي المهلكة. ولا مطابقة بين المصدر والاسم إلا بتأويل آخر، وحينئذ يبعد هذا الوجه. وأقرب معه أن يقول: أصل الكلام واللَّه أعلم: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته. ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهو تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله تعالى: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما ... ) الآية ومثله أيضاً: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة، واللَّه الموفق.]] وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح. قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ: تنفقون، بالتاء ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم اللَّه بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أى: وما ظلمهم اللَّه بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد: ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب