الباحث القرآني

في مصاحف أهل المدينة والشام سارعوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبىّ وعبد اللَّه: وسايقوا. ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أى عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) والمراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه. وخص العرض، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، كقوله: (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) . وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل، كما حكى عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة. وعن عائشة رضى اللَّه عنها أنها تصدّقت بحبة عنب [[أخرجه ابن سعد أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق عن ظبية بنت المعلل. قالت «دخلت على عائشة فجاء سائل فأعطته حبة عنب، ثم نظرت إلينا. وقالت: أتعجبين من هذا؟ إن في هذا لمثاقيل كثيرة» .]] أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف. وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين. كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها. وكظم البعير: إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم» من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللَّه قلبه أمنا وإيمانا [[أخرجه أبو داود. من رواية ابن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أبيه. قال ابن طاهر: هذا الصحابي هو معاذ بن أنس وابنه هو سهل. ورواه عبد الرزاق وأحمد عنه. والعقيلي من طريقه. قال: أخبرنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل عن عمر له عن أبى هريرة به. وعبد الجليل مجهول.]] » وعن عائشة رضى اللَّه عنها: أن خادماً لها غاظها فقالت: للَّه درّ التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. وروى «ينادى مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على اللَّه فلا يقوم إلا من عفا» [[أخرجه البيهقي في الشعب. من رواية المبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران بن حصين رفعه «إذا كان يوم القيامة ينادى مناد من بطنان العرش ليقم الذين كانت أجورهم على اللَّه فلا يقوم إلا من عفا» وفي إسناده قصة إبراهيم بن مهدى مع المأمون. ورواه الطبراني من رواية محرز أبى رجاء عن الحسن قال «يقال يوم القيامة ليقم من كان له على أنه أجر فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . وذكره أبو شجاع في الفردوس عن أنس رضى اللَّه عنه.]] وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إن هؤلاء في أمّتى قليل إلا من عصم اللَّه، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي [[ذكره الثعلبي عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ... فذكره. وإسناده إلى مقاتل في أول الكتاب، وفي الفردوس عن أنس نحوه في أول الذي قبله.]] مضت «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وَالَّذِينَ عطف على المتقين، أى أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله: (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك فاحِشَةً فعلة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أو أذنبوا أى ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة الزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل: الفاحشة الكبيرة. وظلم النفس الصغيرة ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين [[قوله «عازمين» لعله عازمين على عدم العود. (ع)]] وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو [[قوله «بأقصى مما يقدر عليه وجب العفو» أما سمعاً فباتفاق، وأما عقلا فعند المعتزلة فقط. (ع)]] والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة. وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وَلَمْ يُصِرُّوا ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين [[أخرجه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار. من طريق عثمان بن وافد عن أبى نصيرة عن مولى لأبى بكر رضى اللَّه عنه. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بالقوى. وقال البزار: لا نحفظه إلا من حديث أبى بكر بهذا الطريق. وأبو نصيرة وشيخه لا يعرفان. قلت: له شاهد أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث ابن عباس.]] مرّة» وروى «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار [[أخرجه إسحاق بن بشر أبو حذيفة في المبتدأ عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وإسحاق حديثه منكر. ورواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية مكحول. عن أبى سلمة. عن أبى هريرة. وزاد في آخره «فطوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا» وفي إسناده بشر بن عبد الوارث. وهو متروك. ورواه الثعلبي وابن شاهين في الترغيب من رواية بشر بن إبراهيم عن خليفة بن سليمان عن أبى سلمة عن أبى هريرة به.]] » وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فعل الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرّون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرّين [[قوله والتائبين منهم دون المصرين يعنى أن الإصرار كبيرة وفاعل الكبيرة يخلد في النار لكن هذا عند المعتزلة، وخالف أهل السنة لأنه مؤمن عندهم والمؤمن لا يخلد فيها وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)]] . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال أَجْرُ الْعامِلِينَ بعد قوله: (جَزاؤُهُمْ) لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون [[(قوله وأجر مستحق عليه لا كما يقول المبطلون) يريد بهم أهل السنة حيث قالوا لا يجب على اللَّه شيء. (ع)]] . وروى أنّ اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: «ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن رضى اللَّه عنه: يقول اللَّه تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضى اللَّه عنها أنها كانت تنشد: تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إنّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِى عَلَى اليَبَسِ [[ما بال نفسك ترضى أن تدنسها ... وثوب نفسك مغسول من الدنس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس للإمام على كرم اللَّه وجهه وقيل: لأبى العتاهية. والبال الشأن والنفس. ويجوز أنها الذات والثوب على ظاهره. ويجوز أنها الروح والثوب مستعار للجسم، لأنه للروح كالثوب للبدن، أى لا ينبغي تدنيس المظروف مع تنظيف ظرفه. ويجوز أن الأولى الروح والثانية الذات. ويروى ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوب نفسك: جملة حالية. ويروى: «وثوبك الدهر مغسول» . وترجو النجاة على حذف أداة الاستفهام التوبيخي، أبرزه في صورة الخبر ليصور قبحه، وشبه الأسباب الموصلة للنجاة بالطرق المسلوكة على سبيل التصريحية «ولم تسلك» ترشيح. وقوله «إن السفينة» تمثيل لحال من يرجو أمراً ولم يأخذ في أسبابه بحال ملاح يريد تسيير السفينة على أرض صلبة لا ماء بها، وفيه تقرير التوبيخ الذي أفاده الاستفهام.]] والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنه اللَّه في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب