الباحث القرآني

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب وَرُسُلًا نصب بمضمر في معنى: أوحينا إليك وهو: أرسلنا، ونبأنا، وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبىّ: ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب: أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللَّهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم [[قال محمود: ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم ... الخ» قال أحمد: وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام، لا بذات اللَّه تعالى، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف، حتى المشرك الذي قال اللَّه فيه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح، وصدق الزمخشري وأنصف: إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم، واللَّه الموفق]] ، وأن معناه وجرّح اللَّه موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت: كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل [[عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل ... الخ» قال أحمد: قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام اللَّه تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا، فيوجبون بعقولهم، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع: النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع، فقد ترك واجباً استحق به التعذيب، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له، فقالوا: المراد أن الرسل تتمم حجة اللَّه وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل، كما أجاب به الزمخشري، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله: إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة، إذ المعرفة باتفاق، والتوحيد بإجماع، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي، بل الحكم وجوب النظر، والمعرفة متلقاة من العقل المحض، والوجوب متلقى من النقل الصرف، وبه تقوم الحجة، وعليه يرتب الجزاء. واللَّه سبحانه ولى التوفيق والمعونة.]] ، وهم محجوجون بما نصبه اللَّه من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل اللَّه إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد [[قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة: لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)]] مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى: لكنّ اللَّه يشهد، بالتشديد. فإن قلت: الاستدراك لا بدّ له من مستدرك [[قال محمود: «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك ... الخ» قال أحمد: ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.]] فما هو في قوله: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ؟ قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال: لكن اللَّه يشهد، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّه يشهد. وقيل: لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا: ما نشهد لك بهذا، فنزل (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة اللَّه بما أنزل إليه: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة: شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت: بم يجابون لو قالوا: بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟ قلت: يجابون بأنه يعلم بشهادة اللَّه، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت: ما معنى قوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت: معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل: أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه. ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب