الباحث القرآني

هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى اللَّه إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها «إقليما» فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم: قرّبا قربانا، فمن أيكما تقبل زوّجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسدا وسخطا، وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بنى إسرائيل بِالْحَقِّ تلاوة ملتبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين، أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبغون عليه. أو اتل عليهم وأنت محق صادق. وإِذْ قَرَّبا نصب بالنبإ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت. ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف. والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللَّه من نسيكة أو صدقة، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى. يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها، لأن تقرّب مطاوع قرّب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع [[قوله «تقربوا قرف القمع» في الصحاح: القرف القشر. والقمعة رأس السنام، والجمع قمع. والقمع أيضا: بثرة تخرج في شفر العين. (ع)]] فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ جوابا لقوله: (لَأَقْتُلَنَّكَ) ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى اللَّه التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ اللَّه تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد اللَّه: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إنى أسمع اللَّه يقول (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) . ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من اللَّه لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد وغيره إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمى على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره. ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم [[أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة. وللبخاري في الأدب المفرد عن أنس نحوه.]] » على أنّ البادي عليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه، لأنه مكافئ مدافع عن عرضه. ألا ترى إلى قوله «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم. فإن قلت: فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت: هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر، كأنه قال: إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو بسطت يدي إليك. وقيل (بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه [[قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه ... الخ» قال أحمد: وهذا من دسه للمعتقد الفاسد في بيان كلامه، والفاسد من هذا اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مرادا للَّه تعالى وتلك القبائح بجملتها، فإنها على زعمه واقعة على خلاف المشيئة الربانية، وهذا هو الشرك الخفي فإياك أن تحوم حول شركه والعياذ باللَّه فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب، ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين: إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذاً إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ولم تكن حينئذ مشروعة فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل اللَّه رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة، وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر، وبين أن يختم له بالايمان فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا، أعنى بقي الإثم على قاتله أو حبط عنه إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصوداً لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه فدل على أنه أمر لازم تبع لا مقصود. واللَّه أعلم.]] بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد. ألا ترى إلى قوله تعالى وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ وإذا جاز أن يريده اللَّه، جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن [[قوله «لأنه لا يريد إلا ما هو حسن» هذا مذهب المعتزلة أما عند أهل السنة، فاللَّه يريد كل كائن حسنا كان أو قبيحا كما تقرر في علم التوحيد. (ع)]] . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل [[عاد كلامه. قال: «فان قلت: لم جاء الشرط بصيغة الفعل والجزاء باسم الفاعل ... الخ» قال أحمد: وإنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث أن صيغة الفعل لا تعطى سوى حدوث معناه من الفاعل لا غير. وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه اسم الفاعل. ومن ثم يقولون: قام زيد فهو قائم، فيجعلون اتصافه بالقيام ناشئا عن صدوره منه، ولهذا المعنى قوله تعالى: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) عدولا عن الفعل الذي هو لنرجمنك إلى الاسم تغليظا. يعنون أنهم يجعلون هذه لثبوتها ووقوعها به كالسمة والعلامة الثابتة، ولا يقتصرون على مجرد إيقاعها به.]] والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله: (لَئِنْ بَسَطْتَ.....) (ما أَنَا بِباسِطٍ) ؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: فطاوعت. وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك: حفظت لزيد ماله. وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً روى أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث اللَّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروى أنّ آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. لِيُرِيَهُ ليريه اللَّه. أو ليريه الغراب، أى ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز سَوْأَةَ أَخِيهِ عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال: يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء [[قوله «يا لقوم» يروى يا لقومي. (ع)]] أى للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا. ومنه قوله: وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بَيْنِهِمْ ... قَدم احْتَرَبُوا فِى عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ [[وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله فأقبلت في الباغين أسأل عنهم ... سؤالك بالأمر الذي أنت جاهله لخوات بن جبير، يصف نفسه بأنه مهياج للشرور والحروب، يقول: ورب أهل خباء، أى بيوت متلاصقة كأنها بيت واحد. أو كنى به عن تقاربهم في النسب صالح ذات بينهم. أى الحال التي بينهم صالحة، قد تحاربوا بسبب شر عاجل أنا آجله أى جانبه قبل الحرب ومهيجه. وفيه شبه التضاد. ويقال: أجل الشر أجلا إذا جناه وهيجه، فمحاربتهم كانت من أجله وبسببه، فانخذل الباغون للشر، فأقبلت أسأل عنهم، كسؤالك بالأمر: أى عن الأمر الذي أنت جاهله، أفاد بالتشبيه أنه كان ليس جاهلا بهم حين سؤاله، وإنما كان يريهم أنه معهم ومحب لهم لا لعدوهم.]] كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أى من أن جررته بمعنى جنيته. وذلك إشارة إلى القتل المذكور، أى من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و «من» لابتداء الغاية، أى ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك. ويقال: فعلت كذا لأجل كذا. وقد يقال: أجل كذا، بحذف الجار وإيصال الفعل قال: أجل أنّ اللَّه قد فضلكم. وقرئ: من اجل ذلك، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر: من إجل ذلك، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص أَوْ فَسادٍ عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد فِي الْأَرْضِ وهو الشرك. وقيل: قطع الطريق وَمَنْ أَحْياها ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت: لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على اللَّه وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأنّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب اللَّه، والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوّلته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحداً بَعْدَ ذلِكَ بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات لَمُسْرِفُونَ يعنى في القتل لا يبالون بعظمته
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب