الباحث القرآني

غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود [[قال محمود: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ... الخ» قال أحمد: والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن فلما كان الجود وللبخل معنيين لا يدركان بالحس ويلازمهما صورتان تدركان بالحس وهو بسط اليد للجود وقبضها للبخل، عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات، واللَّه أعلم.]] ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين [[قوله «وقعتا متعاقبتين» لعله «معاقبتين» . (ع)]] للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله: جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ [[جاد الحمى أى أمطر فيه وبسط اليدين فاعل وأصله مصدر أريد به المنبسط ضد المنقبض ويروى سبط بتقديم السين صفة مشبهة كضخم وهو بمعنى المسترسل المنبسط كناية عن الكريم كما أن منقبض اليدين كناية عن البخيل فشبه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية وإثبات اليدين تخييل. والتلعة: الأرض المرتفعة. والوهدة: الأرض المنخفضة. وشبه أعالى الحمى وأسافله بطلاب الرزق وشكرها تخييل والندى بمعنى العطاء ترشيح للأولى. ويجوز أنه حقيقة لا بمعنى العطاء ويجوز أن الشكر تخييل للأولى أيضا. يقول: أمطر السحاب أرض الحما بمصر كثير فأنبتت وأزهرت. وهذا معنى شكرها. ويجوز أن التلاع والوهاد مجار عن أهلهما النازلين فيهما.]] ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله: إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا [[وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها للبيد، من المعلقة. يقول: ورب غداة ريح قد كشفتها أى كشفت غمتها عن الناس. ويروى «قد وزعت» أى كففتها ومنعتها. ورب غداة قرة، بالكسر والضم أى شدة برد كشفت بردها أيضا. والكشف خاص بالمحسوس فاستعير للمعقول من غمة الجوع والبرد على طريق التصريح. ويجوز أن إزالة الريح والبرد عن الناس كناية عن إدخالهم بيته لاكرامهم. وشبه الغداة بمطية لها زمام. أو شبه القرة بذلك. وشبه الشمال- وهي نوع من الريح- بقائد يقود تلك المطية على طريق المكنية، والزمام تخييل للأولى، واليد للثانية. وليس بلازم أن يكون للمشبه شيء حقيقى يشبه ما للمشبه به على المختار كاليد والزمام هنا. والمعنى أن الشمال تارة تجعل الغداة مغبرة باردة، وتارة لا. أو تارة نثير الغبار والبرد في جهة، وتارة في أخرى.]] ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان. ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عبارة عن البخل [[عاد كلامه. قال: «فان قلت قد صح أن قولهم يد اللَّه مغلولة عبارة عن البخل ... الخ» قال أحمد: لقد نقص فضيلته التي أوردها في هذا الفصل بما ضمنه هذا السؤال والجواب من القاعدة الفاسدة في أن اللَّه تعالى يستحيل عليه أن يريد من عباده شيئا مما نعاه عليهم، وبنى على ذلك استحالة أن يدعو عليهم بالبخل لأنه لم يرده منهم، ويستحيل أن يريده منهم فوجه هذا النص بالتأويل والتمسك بالأباطيل. والحق أن اللَّه يدعو عليهم بالبخل ودعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فهو الداعي والخالق، لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فانه فيه أفرس الفرسان، لا يجارى في ميدانه ولا يماري في بيانه.]] . فما تصنع بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق اللَّه وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر: بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أضْيَافِى بِوَجْهِ عَبُوسِ [[بقيت وفرى وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس للأشتر النخعي. والبيت الأول في صورة الخبر. والمراد به إنشاء للدعاء على نفسه بالبخل. ويجوز أنه من باب التعليق بالممتنع، والوفر المال الكثير ويروى بقيت وحدي أى فنيت عشيرتي أو بعدت عنها والانحراف التباعد عن حرف الشيء المحسوس كما أن العلى خاص بالمحسوسات، فيجوز أنه استعار الانحراف للاعراض والعدول على طريق التصريحية والعلى ترشيح. ويحتمل أنه استعار العلى للمكارم والانحراف ترشيح. وقوله بوجه عبوس: أى رجل عبوس، ففيه معنى التجريد إن لم أشن بالضم شرط دل ما قبله على جوابه، أى إن لم أفوق حربا على ابن حرب معاوية بن صخر بن حرب، بحيث تأتيه من كل فج. ويروى «على ابن هند» ولم تخل صفة غارة، ونهاب النفوس أخذ الأرواح بالقتل أو أسر الذوات. ويروى «ذهاب نفوس» أى فنائها. وفي الكلام الادماج، حيث ضمن تهديد معاوية مدح نفسه بالكرم، حتى أن البخل عنده من أكبر المصائب وأشد العار، حتى علقه بالممتنع فأفاد امتناعه.]] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب اللَّه دابره، أى قطعه لأنّ السب أصله القطع. فإن قلت: كيف جاز أن يدعو اللَّه عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [[عاد كلامه. قال: فان قلت: لم ثنيت اليد في: (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في قولهم (يَدُ اللَّهِ) ... الخ» قال أحمد: ولما كان المعهود في العطاء أن يكون بإحدى اليدين وهي اليمين، وكان الغالب على اليهود- لعنت- اعتقاد الجسمية، جاءت عبارتهم عن اليد الواحدة المألوف منها العطاء فبين اللَّه تعالى كذبهم في الأمرين في نسبة البخل وفي إضافته إلى الواحدة، تنزيلا منهم على اعتقاد الجسمية، بأن ينسب إلى ذاته صفة الكرم المعبر عنها بالبسط، وبأن أضافه إلى اليدين جميعاً لأن كلتا يديه يمين، كما ورد في الحديث تنبيها على نفى الجسمية، إذ لو كانت ثابتة جل اللَّه عنها لكانت إحدى اليدين يمينا والأخرى شمالا ضرورة. فلما أثبت أن كلتيهما يمين نفى الجسمية وأضاف الكرم إليهما، لا كما يضاف في الشاهد إلى اليد اليمنى خاصة، إذ الأخرى شمال وليست محلا للتكريم، واللَّه أعلم.]] ؟ قلت: ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبنى المجاز على ذلك. وقرئ (وَلُعِنُوا) بسكون العين. وفي مصحف عبد اللَّه: بل يداه بسطان. يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح [[قوله «شحح» في الصحاح «الشحشحة» الطيران السريع. و «قطاة شحشح» أى سريعة اه فلعل الشحح مثله وفيه أيضا «الصرح» بالتحريك: الخالص من كل شيء. (ع)]] وناقة صرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن اللَّه تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا اللَّه في محمد صلى اللَّه عليه وسلم وكذبوه كف اللَّه تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء: يد اللَّه مغلولة، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه وَلَيَزِيدَنَّ أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات اللَّه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فكلمهم أبداً مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من اللَّه على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث اللَّه عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم فطرس الرومىّ، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى اللَّه عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس وَيَسْعَوْنَ ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كتبهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب