الباحث القرآني

قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ الآية. لمَّا تقدَّم قول القوم: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ [يونس: 20] ، وذكروا ذلك؛ لاعتقادهم؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه؛ افتعالاً، واختلافاً، وذكر - تعالى - هنا: أنَّ إتيان محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا القرآن، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى -، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال، والافتراء، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام، بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: 38] . قوله: «أن يفترى» : فيه وجهان: أحدهما: أنَّه خبرُ «كان» ، تقديره: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً، أو يكون بمعنى: مُفْتَرى. والثاني: زعم بعضهم: أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود، ظهرت «أنْ» ، وزعم: أنَّ اللاَّم، و «أنْ» يتعاقبان، فتحذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا القول، يكون خبر «كان» محذُوفاً، و «أنْ» وما في حيِّزها، متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [البقرة143] ، و «مِن دُون اللهِ» متعلِّق ب «يُفْتَرَى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن. قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ﴾ : عطف على خبر «كانَ» ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع؛ إذ هي بين نقيضين: وهُما التكذيبُ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق. وقرأ الجمهور: «تَصْدِيقَ» و «تَفْصِيلَ» بالنصب، وفيه أوجهٌ:. أحدها: العطفُ على خبر «كَانَ» كما تقدَّم، ومثله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله﴾ [الأحزاب: 40] . والثاني: أنَّه خبر «كَانَط مضمرةٌ، تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائيُّ، والفرَّاء، وابن سعدان، والزجاج، وهذا كالذي قبله في المعنى. والثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتَّصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً، والتقدير: ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب. وقرأ عيسى بن عمر» تَصْدِيقُ «بالرفع، وكذلك التي في يوسف، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: ولكن هو تصديقُ؛ ومثله قول الشاعر: [الوافر] 2903 - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ ... ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ برفع» مِدْرَةُ» ، على تقدير: أنَا مِدْرَهُ. وقال مكي: «ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء -. الرَّفعُ على تقدير: ولكن هو تصديقُ» ، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ، وقد ورد في قراءات السَّبعة: التَّخفيفُ، والتَّشديدُ في «لكن» ، نحو: ﴿ولكن الشياطين ﴾ [البقرة : 102] ، ﴿ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: 17] . قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» : فيه أوجه: أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى: وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب. والثالث: أنَّه معترضٌ بين «تَصْديقَ» ، وبين «من ربِّ العالمينَ» . قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتَّصلَ قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ ؟ . قلت: هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك، كأنَّه قيل: ولكن تصديقاً، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ، كائناً من ربِّ العالمينَ، ويجُوزُ أن يراد به: ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين، وتفصيلاً منه، لا ريب في ذلك، فيكون» من ربِّ العالمينَ» : متعلِّقاً ب «تَصْديقَ» ، و «تَفْصِيلَ» ، ويكون «لا رَيْبَ فيهِ» : اعتراضاً، كما تقول: زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ» . انتهى. قوله: «مِن ربِّ» : يجوز فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكن متعلِّقاً ب «تَصْدِيقَ» أو ب «تَفْصِيلَ» وتكون المسألة من باب التنازع، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين، من جهة المعنى، وهذا هو الذي أراد الزمخشري، بقوله: فيكون «من ربِّ» : متعلقاً ب «تَصْدِيقَ» ، و «تَفْصِيلَ» ، يعني: أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما، من حيث المعنى، وأمَّا من حيث الإعرابُ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره، كما تقدَّم تحريره، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني، بدليل الحذف من الأول. والوجه الثاني: أنَّ «مِن ربِّ» حال ثانية. والثالث: أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر، أي: أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين. فصل المعنى: وما ينبغي لمثل هذا القرآن، أن يُفْتَرَى من دون الله، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: 161] ، وقيل: «أنْ» بمعنى: اللاَّم، أي: وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: 122] ، و ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين﴾ [آل عمران: 179] ، و ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ [آل عمران: 179] أي: ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله، والافتراءُ: الافتعال، من أفريتُ الأديم: إذا قدَّرته للقطع، ثم استعمل في الكذب، كما استعمل قولهم: اختلق فلان الحديث في الكذب، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور: الأول: قوله: ﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: إنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان رجُلاً أمِّيًّا، لم يتعلَّم العِلْمَ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء، وليس فيها شيء من كتب العلم، ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة، والإنجيل، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك، مع شدَّة حرصهم على الطَّعن فيه، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص، مطابقة للتوراة والإنجيل، مع أنَّه ما طالعهما، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما، فدلَّ ذلك: على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي. الحجة الثانية: أنَّ كتب الله المنزَّلة، دلَّت على مقدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في تفسير قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40] فكان مجيءُ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لهما في تلك الكتب، ومصدقاً لما فيها من الباشرة بمجيئه، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه. والدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يوسف: 111] واعلم: أنَّ العُلُوم: إمَّا أن تكون دينيَّة، أو ليست دينيَّة. والقسم الأول أرفع حالاً، وأعظم شأناً من القسم الثاني، والدينيَّة: إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان، أو علم الأعمال. فأما علم العقائد والأديان: فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته، ومعرفة صفات جلاله، وصفات أفعاله، وأحكامه، وأسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل، وتفاريعها، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب، ولا يقرب منه. وأمَّا علم الأعمال فهو: إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة، وهو علم الفقه، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثم من القرآن. وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب، ففي القرآن من مباحث هذا العلم، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره، كقوله: ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ [الأعراف: 199] ، وقوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان﴾ [النحل: 90] الآية، إلى غير ذلك. فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة؛ فكان ذلك مُعْجِزاً. ثم قال: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه، علمنا أنَّه من عند الله، قال - تعالى -: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ [النساء: 82] . قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ الآية. لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام، على سبيل الإنكار، إبطال هذا القول، فقال: «أم يقولون افتراه» ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة، عند قوله: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ [البقرة: 23] . قوله: «أم يقُولُونَ» : في «أمْ» هذه وجهان: أحدهما: أنَّها منقطعةٌ، فتقدَّر ب «بَلْ» ، والهمزة عند سيبويه، وأتباعه، والتقدير: بل أتقُولُون، انتقل عن الكلامِ الأول، وأخذ في إنكار قولٍ آخر. واثاني: أنَّها متصلةٌ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ؛ ليصحَّ التعادلُ، والتقدير: أيقرون به، أم يقولون افتراهُ، وقال بعضهم: «أمْ» هذه بمنزلة الهمزة فقط، وعبَّر بعضهم عن ذلك، فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقطٌ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً، ولا سيَّما هنا، وزعم أبو عبيدة: «أنها بمعنى: الواو، والتقدير: ويقولون افتراه» . قوله: «قُلْ فَأْتُواْ» : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري: «قُلْ: إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة» . وقرأ عمرو بن فائد: «بسُورَةِ مثلِهِ» بإضافة «سُورة» إلى «مِثلِهِ» على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير: بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ: فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على القرآنِ، وأن يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأمَّا في قراءة العامَّة؛ فالضمير للقرآن فقط. فإن قيل: لِمَ قال في البقرة: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: 23] ، وقال هنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ» ؟ . فالجواب: أنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة: «مِن مثله» أي: فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداص في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً. وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ» . فصل تمسَّك المعتزلة بهذه الآية: على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ قالوا: إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّى العرب بالقرآن؛ والمراد بالتَّحدِّي: أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به. وأجيبُوا: بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة. ثم قال تعالى: ﴿وادعوا مَنِ استطعتم﴾ : ممَّنْ تعبدُون ﴿من دُونِ اللهِ﴾ ليُعينُوكُم على ذلك، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه: كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره: أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول: هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ: يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر. فظهر بما تقرَّر: أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن ستٌّ: أولها: أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88] . وثانيها: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: 13] . وثالثها: أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: 38] . ورابعها: تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ [الطور: 34] . وخامسها: أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس: طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها. وسادساً: أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: 38] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن. فقال: ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ﴾ يعني: كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه. قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي: سارعُوا إلى تكذيبه حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى -: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ ؟ قلت: معناه: كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل» ، ثمَّ قال أيضاً: «ويجُوزُ أن يكون المعنى: ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّن لهم: أكذبٌ هو، أم صدقٌ» . انتهى. وفي وضعه «لَمْ» موضع «لمَّا» نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب «لم» ، وجملة إتيانِ التأويل ب «لمَّا» ؛ لأنَّ «لَمْ» للنَّفْي «المطلق على الصَّحيح، و» لمَّا» لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى: أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار. فصل قيل المعنى: بل كذَّبُوا بالقرآن ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: عاقبةُ ما وعد الله في القرآن؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم. وقيل: كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا: ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي: بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً: تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية؛ كما قال - تعالى -: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى﴾ [يوسف: 111] ، وأيضاً فهي دلالة على العجز؛ لكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾ [الشعراء: 192 - 194] ، وقيل: إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن؛ فأجاب - تعالى - بقوله: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: 7] ، وقيل: إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا: لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فأجاب - تعالى -: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: 32] ، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم: إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7] ، وبالجملة: فشبهات الكفارة كثيرة؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن. قوله: «كذلِكَ» : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي: مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر، والتدبُّر. وقوله: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ﴾ كَيْفَ خبر ل «كَانَ» ، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر. قال ابن عطيَّة: «قال الزجاج:» كَيْفَ» في موضع نصبٍ على خبر «كان» ، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظر» ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين؛ لأنَّهم عاملُوا» كَيْفَ «في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك» كيف زيد «، ول» كيف «تصرفاتٌ أخرى؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو» كيفيَّة» ، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم: «كُنْ كيفَ شِئْتَ» ، وانظر قول البخاريِّ: «كيف كان بدءُ الوحي؛ فإنه لم يستفهم» . انتهى. فقول الزجاج: لا يجوز أن تعمل «انظر» في «كيف» ، يعني: لا تتسلَّط عليها، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ. قال أبو حيَّان: «وقولُ ابن عطيَّة: هذا قانونُ النَّحويين. . إلى آخره، ليس كما ذكر، بل ل» كيف «معنيان: أحدهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط؛ كقول العرب:» كيف تكونُ أكونُ «، وقوله: ول» كيف «تصرفات إلى آخرة ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى» كَيْف» ، وقوله: «ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها، ومن تصرُّفاتهم قولهم: كن كيْفَ شِئْتَ» لا يحتمل أن يكون منها؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر، من كون» كيف «بمعنى:» كيفية» ، وادِّعاءُ مصدرية «كيفية» . وأمَّا «كُنْ كيف شِئْتَ» : ف» كَيْفَ «ليست بمعنى:» كيفية» ؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التقدير: كيف شئت فكن؛ كما تقول: «قُمْ مَتَى شِئْتَ» ، ف» متى «اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه» قُمْ» ، والجواب محذوف، تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجوابُ؛ لدلالةِ ما قبله عليه؛ كقولهم: «اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ» ، التقدير: إن أساءَ إليك فاضْرِبْه، وحذف» فاضْرِبه «لدلالة» اضرِبْ «المتقدِّم عليه، وأمَّا قول البخاريُّ:» كيف كَانَ بَدْءُ الوحي «؛ فهو استفهامٌ محضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية؛ كأنَّ سَائِلاً سأله، فقال: كيف كان بدءُ الوحي. وإمَّا أن يكون من قوله هو، كأنَّه سَألَ نفسه: كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك» . وقوله: «الظالمين» من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر، ويجوز: أن يراد به ضميرُ من عَادَ عليه ضمير «بَلْ كذَّبُوا» ، وأن يُرادَ به ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ . ومعنى الآية: أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا، وتركُوا الآخرة، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ، وقيل: المراد: عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة. قوله تعالى: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ لأنَّ «يُؤمِنُ» يصلح للحالِ، والاستقبال، فحمله بعضهم على الحال، أي: ومنهم من يُؤمِنُ بالقرآن باطناً؛ لكنَّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره. وقيل: المراد: الاستقبال، أي: ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل؛ بأنْ يتوب عن الكفر، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر. ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ أي: بأحوالهم، أي: هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا. ثم قال: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي﴾ ، وجزاؤه «ولكُم عملُكُم» ، وجزاؤه ﴿أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 41] ، هذا كقوله - تعالى -: ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [الشورى: 15] ، ومعنى الكلام: الردع والزجر، وقيل: معناه: استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ: «هذه الآية منسوخة بآية السيف» ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية: اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً. قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية. لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى: «مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين: منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه. قوله:» مَّن يَسْتمِعُونَ» : مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً؛ مراعاة لمعنى «مَنْ» ، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ [يونس: 43] . قال ابن عطيَّة: «جاء ينظرُ على لفظ» مَنْ «، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ» . قال أبو حيَّان:» وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى: من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة8] . فصل أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم﴾ يريد: صمم القلب ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي﴾ يريد: عَمَى القلب، ﴿وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن. والمقصُود: إعلامُ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل، إلى حيث لا يقبلُون العلاج، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج، أعرض عنهُ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار. فصل احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية: على أنَّ أفعالَ العباد من الله؛ لأنَّ الآية دلَّت على: أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم، بقوله - تعالى - بعدها: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44] فدلَّ ذلك على: أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم، وأجاب الواحدي: «بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك، لم يكن ظالماً، وإنَّما قال: ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب» . فصل احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع، ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظَر، إلاَّ ذهاب البصر، فكان السَّمْع أفضل من البصر، وردَّه ابن الأنباري: بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع، بمنزلة ما نفاهُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون، والذي يُبْصِره القلب، هو الذي يعقله. واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى، فقال: كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر. أحدها: أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين، تعذَّر عليه الجواب، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع. وثانيها: أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها. وثالثها: أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر، فكان السَّمعُ أفضل. ورابعها: أنَّه - تعالى - قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] ، والمراد بالقلب ههنا: العقل، فجعل السَّمع قريناً للعقل، ويؤيِّده قوله - تعالى -: ﴿وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير﴾ [الملك: 10] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير. وخامسها: أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات؛ هو النُّطق والكلام، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة، فمتعلق السمع: النطق الذي شرف الإنسان به، ومتعلَّق البصر: إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس، وسائر الحيوانات؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر. وسادسها: أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس، ويسمعُون كلامهم؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّة، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة، وهو تبليغ الشرائع والأحكام؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر. وقال آخرون: البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه: الأول: قولهم في المثل: «ليس ورَاءَ العيانِ بيان» ، فدلَّ على: أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر. الثاني: أنَّ آلة القوَّة الباصرة، هو النُّور، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء، والنُّور أشرف من الهواء، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة. الثالث: أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى -، في تخليق العين التي هي محل الإبصار؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن، التي هي محل السماع، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب، آلة للإبصار، وركَّب العين من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذنُ ليس كذلك، وكثرة العناية في تخليق الشيء، يدل على أنَّه أفضل من غيره. الرابع: أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل، وبهذا البيان يدفع قولهم: إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد. الخامس: أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا، واختلفوا: هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا؟ وأيضاً: فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال، ولمَّا سأل الرُّؤية، قال: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع. السادس: قال ابن الأنباري: كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر، وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً، والعربُ تسمي العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، ومنه الحديث؛ يقول الله: «من أذهبت كريمتيه، فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة» . قوله تعالى: ﴿لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ يجوز أن ينتصب «شَيْئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم، قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلِمُ» ، بمعنى: لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم. قوله: ﴿ولكن الناس﴾ قرأ الأخوان: بتخفيف «لكن» ومن ضرورة ذلك: كسرُ النُّونِ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً، ورفع «النَّاس» ، والبقاون بالتشديد ونصب «النَّاس» ، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [102] ، ومعنى ﴿لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل، وعادل، ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ : بالكفر والمعصية.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب