الباحث القرآني

قوله - تعالى - ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ﴾ الآية. قرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: «إنَّ هذا لساحِرٌ» اسم فاعل، والإشارةُ ب «هَذَا» حينئذٍ إلى موسى، أشير إليه لتقدم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى، من قلب العصا حيَّة، وإخراج يده بيضاء كالشمس، ويجوز أن يشار ب «هذا» في قراءة ابن جبير: إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم: «شِعْرٌ شَاعِرٌ» ، و «جَدَّ جَدُّهُ» . فإن قيل: إنَّ القوم لمَّا قالوا: ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا: «أسِحْرٌ هذا» على سبيل الاستفهام؟ . فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ معمول «أتقولون» : الجملة من قوله: «أسِحْرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للسحرة: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس: 81] . والثاني: أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ . ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية: إن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لهم: ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ﴾ ما تقولون، ثم حذف منه مفعول «أتقولون» لدلالة الحالِ عليه، ثم قال: أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون﴾ ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر: [الطويل] 2922 - لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا وفي كتاب سيوبيه: «متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً» على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال: «متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ» وقيل: القول في الآية بمعنى: العَيْب والطَّعْن، والمعنى: أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم: «فلان يخافُ القالة» و «بين الناس تقاولٌ» إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: 60] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ. قوله: «قَالُوا» يعني: فرعون وقومه، «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا» اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي: أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ: الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي: صرفه ولواه عنه، وقال الأزرهي: «لفَتَ الشَّيء وفتلهُ» : لواه، وهذا من المقلوب. قال شهاب الدِّين: «ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ: التفَت، وقيل: انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع» فَتَل «عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي: تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ: ما يغلظُ من القصيدة» والمعنى: أنَّهم قالوا: لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار. قوله: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض﴾ الكبرياء: اسمُ «كان» ، و «لكم» : الخبر، و «في الأرض» : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه: أحدها: أن تكون متعلقة بنفس الكبراي. الثاني: أن يتعلق بنفس «تكون» . الثالث: أن يتعلَّق بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكون حالاً من «الكبرياء» . الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير في «لَكُمَا» لتحمُّلِه إيَّاهُ» . والكبرياء مصدرٌ على وزن «فِعْلِيَاء» ، ومعناها: العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ: [الخفيف] 2923 - سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي ... يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير: [الخفيف] 2924 - مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ يعني: هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم. والجمهور على» تكون «بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو، وعاصم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في روايةٍ:» يكون» بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ. قال المفسِّرون: والمعنى: ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر، والخطابُ لموسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -. قال الزَّجَّاج: سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً: فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم. واعلم: أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم، وهما: التَّقليد، والحرصُ على طلب الرِّياسة، صرَّحُوا بالحكم، فقالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر، فقال فرعون: ﴿ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ . قرأ الأخوان: سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف، وابن وثَّاب، وعيسى بن عمر. ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ . فإن قيل: كيف أمرهُم بالسِّحْر، والسِّحر كفر، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟ . فالجواب: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ، وسعيٌ باطلٌ، لا أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم، قال لهم موسى: ما جئتم به هو السِّحْر، والغرض منهُ: أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى: إنَّ ما جئتَ به سحر، فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنَّ ما ذكرتمُوه باطلٌ، بل الحقُّ: أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق، ويبطل الباطل. قوله: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ قرأ أبو عمرو وحده: «آلسِّحر» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ [الأنعام: 143] وهي قراءة مجاهد، وأصحابه، وأبي جعفر، وقرأ باقي السبعة: بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو، ففيها أوجه: أحدها: أنَّ «ما» استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و «جِئْتُمْ بِه» : الخبرُ، والتقدير: أي شيءٍ جِئْتُم، كأنَّه استفهام إنكار، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به. و «السِّحْر» بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ، كما تقول: كم مالك أعشرون، أم ثلاثون؟ فجعلت: أعشرون بدلاً من كم، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه، خبراً عنه. الثاني: أن يكون «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهُو السِّحْر. الثالث: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: السحر هو، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكِّي، وفيهما بعد. الرابع: أن تكون «ما» موصولة بمعنى: الذي، و «جئتم به» صلتها، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط، كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان. قال شهاب الدِّ] ن: قد منع مكِّي أن تكون «ما» موصولةً، على قراءة أبي عمرو، فقال: وقد قرأ أبو عمرو «» آلسحرُ «بالمدِّ، فعلى هذه القراءة: تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جِئْتُم بِهِ» : الخبر، و «السّحر» خبرُ ابتداءٍ محذوف، أي: أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون» مَا «بمعنى:» الَّذي «على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر، بل خبرها: الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها، وكذلك الزمخشري، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه. الخامس: أن تكون» ما «استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام، و «جِئْتُم به» مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به، و «السِّحْر» على ما تقدَّم، ولو قُرىء بنصب» السِّحْر «على أنَّه بدلٌ مِنْ» ما «بهذا التقدير، لكان لهُ وجه، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء. وأمَّا قراءةُ الباقين، ففيها أوجهٌ: أحدها: أن تكون» ما» بمعنى: «الذي» في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُم بِه» صلته وعائده، و «السِّحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحر، ويؤيِّد هذا التقدير، قراءة أبيّ، وما في مصحفه: «ما أتيتم به سِحْرٌ» ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش: «مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ» . الثاني: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ نصبٍ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و «السِّحْر» خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ مضمر الخبر. الثالث: أن تكون «ما» في محلِّ رفع بالابتداء، و «السِّحْر» على ما تقدَّم من كونه مبتدأ، أو خبراً، والجملة خبر «ما» الاستفهامية. قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول -: «ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير، والتَّقليل لما جاؤوا به، و» السِّحْر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السِّحْر» . قال شهاب الدِّين: ظاهرُ عبارته: أنَّه لم يَرَ غيره، حيث قال وعندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي. قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - «ويُقْرَأ بلفظ الخبر، وفيه وجهان» ، ثم قال: «ويجوزُ أن تكون» ما «استفهاميَّة، و» السِّحْر «خبر مبتدأ محذوف» . وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو، بعد ذكره كون «ما» بمعنى: الذي - ويجوز أن تكون «ما» رفعاً بالابتداء، وهي استفهامٌ، و «جِئْتُم بهِ» : الخبر، و «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو السِّحر، ويجُوزُ أن تكون «ما» في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد «ما» تقديره: أيُّ شيءٍ جئتم به، و «السحرُ» : خبر ابتداء محذوف. الرابع: أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: أنَّها على نيةِ الاستفهامِ، ولكن حذفت أداته للعلم بها. قال أبو البقاء: ويقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره: يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم، واعلم أنَّك إذا جعلت «ما» موصولة بمعنى: الذي، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال. قال مكِّي: ولا يجُوزُ أن تكون «ما» بمعنى: الذي، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها، والصلةُ لا تعمل في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا: أنَّها إذا كانت استفهامية، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب، وإذا كانت موصولة، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء، وقال مكي: وأجاز الفرَّاءُ نصب «السِّحْر» فجعل «ما» شرطاً، وينصبُ «السِّحْر» على المصدر، وتضمرُ الفاءُ مع ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ ، وتجعل الألف واللام في «السِّحْر زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان: حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى -: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر. قال شهاب الدِّين: وإذا مشينَا مع الفرَّاء، فتكون» ما «شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به، فإنَّ الله سيبطله، ويُبَيِّن أنَّ» ما «يراد بها السحر قوله:» السِّحْر» ؛ ولكن يقلقُ قوله: «إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة» فيكون تأويله: أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة، وجعل» أل «مزيدة فيه. وقد نُقِلَ عن الفرَّاء: أنَّ هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفرَّاء:» وإنَّما قال «السِّحر» بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ، أعيدت بالألف واللاَّم «يعنى: أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [يونس: 76] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة. قال ابن عطيَّة: والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسحرٌ» ، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أوَّل الرسالة: «سلامٌ عليك» . قال أبو حيَّان» وما ذكراه هنا في «السِّحْر» ليس من تقدُّم النكرة، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب «أل» هو المنكر المتقدَّم، ولا يكون غيره، كقوله - تعالى -: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: 15، 16] . وتقول: «زارنِي رجلٌ، فأكرمتُ الرَّجُل» لمَّا كان إيَّاه، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ، فتقول: «فأكرمته» ، و «السِّحْر» هنا: ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحْرٌ» لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسِّحْر الذي في قول موسى، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم: لسحْرٌ» . قال شهاب الدِّين: «والجوابُ: أنَّ الفرَّاء، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ» السَّحْر «جاز أن يقال ذلك، ويدلُّ على هذا: أنَّهم قالوا في قوله - تعالى -: ﴿والسلام عَلَيَّ﴾ [مريم: 33] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى -: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: 15] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: يحتمل أن يكون له مقالتان، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ، اتَّسعت المقالاتُ» . قوله: ﴿إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾ أي: سيهلكه، ويظهر فضيحة صاحبه، ﴿إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين﴾ أي: لا يقوِّيه ولا يكمِّله، وقوله: «المُفْسدينَ» من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ: لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها، ثم قال: ﴿وَيُحِقُّ الله الحق﴾ أي: يظهره ويقوِّيه، ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ أي: بوعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره، وقرىء: «بكَلمتهِ» بالتوحيد، وتقدَّم نظيره [الأنفال: 7] . قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى﴾ الفاءُ للتَّعقيب، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية «آمن» باللاَّم، والضَّمير في «قَوْمِهِ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً، بل كان التركيب: «على خوفٍ منه» وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس، وغيره، قال: المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر، وخرجُوا معه. قال ابن عبَّاس: لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير، بمعنى: قلة العدد. قال مجاهد: كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء، وبقي الأبناء. وقيل: هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل، كانت المرأة في بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة، خوفاً عليه من القتل، فنشئُوا بين القبط، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة. والثاني: أنَّ الضمير يعُود على فرعون، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا، وضعف الأول، فقال: وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى: أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً: ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم. قيل: المراد بالذرية: أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ. روي عن ابن عبَّاس: أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط. قيل: سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن -: الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم. وقيل: المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون: آسيةُ، ومُؤمنُ آلِ فرعون، وامرأته، وخازنه، وامرأةُ خازنه، وماشطتها. واعلم: أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه، واستمرارهم على الكُفْر، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية. قوله «عَلى خوفٍ» : حالٌ، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضَّمير في «ومَلئِهِم» فيه أوجه: أحدها: أنَّه عائدٌ على الذُّرية، وهذا قولُ أبي الحسن، واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من ملأ الذرية، وهم أشراف بني إسرائيل. الثاني: أنه يعودُ على «قَوْمِهِ» بوجهيه، أي: سواءٌ جعلنا الضمير في «قومِهِ» لمُوسى، أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى، أو ملأ قوم فرعون. الثالث: أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين: أحدهما: أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم، عاد الضَّمير عليه جمعاً، كما يقول العظيم: نحن نأمُرُ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم، لاحتمل ذلك. الثاني: أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنَّهما أخلص منهما، قال: إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل: لمَّا ذكر فرعونُ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ، فرجع الضَّميرُ عليه، وعلى من معه. وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس﴾ [آل عمران: 173] والمراد بالقائل الأول: نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول. الرابع: أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ من آل فرعون، ومَلئِهم، قاله الفرَّاء، كما حذف في قوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: 82] . قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ: «وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول:» زَيْدٌ قاموا «وأنت تريد: غلمان زيد قامُوا» . قال شهاب الدِّين: قوله: «لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير» ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان: الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: 4] أي: أهل قرية، ثم قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: 4] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله: «لجازَ زيد قاموا» ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية. وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء -: ورُدَّ عليه: بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال: ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في «ومَلئِهم» . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: 82] وبين هذه الآية: بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف. وجواب هذا: أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: 82] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه. الخامس: أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ؛ فكان التقدير: على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً. قال شهاب الدِّين: حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى -: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: 81] أي: والبرد؛ وقول الآخر: [الطويل] 2925 - كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا ... إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا أي: ويدها. قوله: «أن يفْتنَهُم» أي: يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من «فِرْعَون» ، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره: على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك: «أعْجَبني زيد علمُهُ» . الثاني: أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي: خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: 14، 15] ، وقول الآخر: [الطويل] 2926 - فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ ... عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ. وقرأ الحسن، ونبيح: «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياءِ من «أفتن» وقد تقدَّم ذلك [النساء: 101] . قوله: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾ أي: مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و «فِي الأرض» متعلِّقٌ ب «عَالٍ» ؛ كقوله: [الكامل] 2927 - فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي ... لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ أي: لِمَا تَقْهَر، ويجوز أن يكون «فِي الأرْضِ» متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل «عَالٍ» فيكون مرفوع المحلِّ، ويرجح الأول قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض﴾ [القصص: 4] ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين﴾ : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً، فادَّعى الرُّبُوبيَّة، وقيل: لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه، والغرضُ منهُ: بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين. قوله تعالى: ﴿وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله﴾ الآية. قوله تعالى: «فَعَليْهِ» جوابُ الشرط، والشرط الثاني - وهو «إن كنتم مُسلمينَ» - شرطٌ في الأول، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [البقرة: 38] . قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدماً، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ، متقدماً في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى، فكأنَّه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار، فأنت طالقٌ، فلو حصل هذا التعليقُ، قيل: إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق. قوله: ﴿ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا﴾ فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره، وقهره، وإذا حصلت هاتان الحالتان، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى -، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى -. فصل إنما قال: «فعليه توكَّلُوا» ولم يقل: «توكَّلُوا على اللهِ» ، لأن الأول يفيد الحصر، كأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالتَّوكُّل عليه، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله ﴿فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا﴾ أي: توكُّلُنا عليه واعتمادنا، ولم نلتفت إلى أحد سواه، ثم اشتغلوا بالدعاء، وطلبوا من الله شيئين: أحدهما: أن قالوا: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ . والثاني: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾ أما قولهم: ﴿لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ ففيه وجوه: الأول: لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم. الثاني: لو سلَّتهُم علينا، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة، وذلك يكون فتنة لهم. الثالث: أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير: لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ، ويؤكِّد هذا قوله: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: 83] وأمَّا المطلوبُ الثاني، فهو قوله: ﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾ . وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم: ﴿لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ [يونس: 85] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب