الباحث القرآني

لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان: أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله. الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ. قوله: ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ. قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ في «مِن» هذه أربعة أوجه: أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه. الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 4] ، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين. الثالث: أنها بمعنى بدل. قال الزمخشري: قوله: ﴿مِّنَ الله﴾ مثل قوله: ﴿إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [يونس: 36] ، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، أي: لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾ [سبأ: 37] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ. ومنه قوله: [الرجز] 1345 - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا ... وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا وقول الآخر: [الكامل] 1346 - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا وقوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً﴾ [الزخرف: 60] ، وقوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: 38] ؟ الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض. قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته» . و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء. قوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ هذه الجملة تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أن تكون مستأنفةً. والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل. وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته. فصل اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة. الأول هو المراد بقوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾ ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88 - 89] . وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب