الباحث القرآني

لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف، ورابعاً - بالترغيب بقوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ . والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة، وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع، فقوله: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ إشارة إلى التخويف من عقاب الله، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله، ثم أرْدَفَه بالرغبة، فقال: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ فكأنه قال: خَوْف الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى، ووجوب طاعتكم لحكمه. فصل قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين، وأن يُشْكَر فلا يُكفر، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك، فنزل: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: 16] ، فنسخت أول هذه الآيةِ، ولم ينسخ آخرها، وهو قوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ وقال جمهور المحقِّقين: إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله» ؟ فقلت: اللهُ ورسولُه أعْلَمُ. قال: «حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قلت: يا رسول الله، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا» وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ أي: كما يحق أن يتقى، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78] . فإن قيل: أليس قد قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] ؟ فالجواب: أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن، وكلها في صفة الكفار، لا في صفة المسلمين، وأما الذين قالوا: إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا يُنْسَى، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة، وكل ذلك مما يطاق، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ. وقوله: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي: كما يجب أن يُتَّقَى، والتقى اسم للفعل - من قولك: اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك: اهتديت. قوله: ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد: دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه، فكأنه قال: دوموا على الإسلام غلى الموت، وقريب منه ما حَكَى سيبويه: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا، أي: لا تكن بالحضرة، فتقع عليك رؤيتي، والجملة من قوله: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ في محل نصب على الحال، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة، أي: لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر، ولو قيل: إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً. قوله: ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً﴾ الحبل - في الأصل - هو: السبب، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب التمثيل، ومن كلام الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف. قال الأعشى: [الكامل] 1554 - وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا يعني العهود. قيل: والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً، ويكون معه كالعلامة، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك، وهذا المعنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض. وقال آخر: [الكامل] 1555 - مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا قال القرطبي: العِصْمة: المَنَعَة، ومنه يقال للبَذْرَقة: عصمة، والبذرقة: الخفارة للقافلة، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها، قال ابنُ خالويه: «البذرقة ليست بعربيةٍ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب، يقال: بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة» . والحبل لفظ مشترك، وأصله - في اللغة: السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل: المستطيل من الرمل، ومنه الحديث: «واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ» ؟ والحبل: الرَّسَن، والحبل: الداهية. قال كثير: [الطويل] 1556 - فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي ... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ والحبالة: حبالة الصائد، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد. والمراد بالحبل - هنا -: القرآن؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحديث الطويل -: «هو حَبْلُ الله المتين» . وقال ابن عباس: هو العهد المذكور في قوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40] لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس﴾ [آل عمران: 112] أي: بعهد، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف. وقيل: دين الله. وقيل: طاعة الله، وقيل: هو الإخلاص. وقيل: الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ . وتحقيقه: أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل، تحرُّزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله، وأمروا بالاعتصام به. وقوله: ﴿جَمِيعًا﴾ أي: مجتمعين عليه، فهو حال من الفاعل. قوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله «ولا تيمموا» والباقون بتخفيفها على الحذف. فصل في التأويل وجوه: الأول: أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً، وما عداه جهلٌ وضلال، قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ [يونس: 32] . الثاني: أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك، فنهوا عنه. الثالث: أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة، ويزيل الألفة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ» قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «الجَمَاعَةَ» . وروي: «السواد الأعظم» . ويروى: «مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي» . واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف، والأمر بالاتفاق، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً. فصل استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إن الله سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية، أو ظنية، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين، وإن كانت ظنيّة أدى الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] وقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾ [الأنفال: 46] . والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس. قال القرطبي: وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ» وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً» . قوله: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ . ﴿نِعْمَةَ الله﴾ مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس ﴿نِعْمَتَ﴾ ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب «على» قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 37] . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نِعْمَةَ» ، فيتعلق بمحذوف، أي: مستقرة، وكائنة عليكم. قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾ «إذْ» منصوبة - ب «نِعْمَةَ» ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ إذا قلنا: إن «عَلَيْكُمْ» حال من النعمة، وأما إذا علقنا «عَلَيْكُمْ» ب «نِعْمَةَ» تعيَّن الوجه الأول. وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب «اذْكُروا» يعني: مفعولاً به، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ «اذْكُرُوا» مستقبل، و «إذْ» ماضٍ. فصل ﴿كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ . قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة، إلى أن أطفأ الله تعالى، ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً، تُسمِّيه قومه: الكامل، لجلده ونسبه، قدم «مكة» حاجًّا أو معتمراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة، فتصدَّى له حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيْدٌ: فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال: حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعْرِضْهَا عَلِيَّ «فعرضها عليه، فقال: إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وقال: إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث» فإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر، فلما سمع بهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أاهم، فجلس إليهم، فقال: «هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا: ومَا ذَاكَ؟ قال: أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام» ، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دَعْنا منك؛ فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنهم ثم انصرفوا إلى «المدينة» ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - إظْهارَ دينهِ، وإعزازَ نبيه، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا: نفر من الخزرج فقال: أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا: نعم، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعِلْم، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون: إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ، فلما كلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه، وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا «المدينة» ذكروا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلاني، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في «العقبة» - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بيعة النساء، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا. . إلى آخر الآية، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويُفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحَائِطِ، واجتمع إليهما رجال من أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكَلِّمْهُ، فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت. قال: أنصفت، ثم ركز حريته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال: تغتسل، وتُطهِّر ثوبك، ثم تشهد شهادةَ الحق، ثم تصلي ركعتين. فقالم واغتسل، وغسل ثوبه، وتشهد شهادة الحق، وصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النَّادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: تفعل ما أحببت، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة، ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك. فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة، فأخذ الحربة، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما، فوقف عليهما متشتماً، فقال لأسعد بن زرارة: والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة، ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟ فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد. فقال له مصعب: أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً، ورغبت فيه، قبلته، وإن كرهته، عَزَلْنَا عنك ما تكره. قال سعد: أنْصَفْتَ، ثم ركز الحَرْبَةَ، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به، ثم قال: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مُقْبِلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعونه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» ومضى بدر وأحد والخندق. قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى «مكة» وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا «مطة» ، فواعدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقبة من أوسط أيام التشريق، وهي بيعة العقبة الثانية. قال كَعْبُ بْنُ مَالِك: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين أمرنا - وكلمناه، وقلنا له، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، شريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند «العقبة» ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ، أم منيع، إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثّق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب. فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه، ومَنَعَةٍ في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ. قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ. قال: فتكلَّم رسولُ الله، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَغَّبَ في الإسلام، ثم قال: أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ -. فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ، قال: فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو الهيثم بن التَّيْهان. فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: «لا، بل الأبدَ الأبدَ، الدَّمَ الدَّمَ، الهدمَ الهدمَ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ» ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس» . قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ: يا معشرَ الخزرج، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وَقَتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟ قال: «الجَنَّةُ» . قالوا: ابْسُطْ يدك، فبسط يده، فبايعوه، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده: البَرَاءُ بن معرور، ثم بايع القومُ. قال: فلما بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط: يا أهل الجباجب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه، قد اجتمعوا على حَرْبكم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا عَدُوُّ اللهِ، أزَبُّ العَقَبَة، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ. ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ» . فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَمْ نُؤْمَرْ بذلك، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ» فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جُلَّةُ قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشرَ الخزرج، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظْهُرنا، وتبايعونه على حَرْبِنَا، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا، يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ، وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ، فخلعهما من رِجْلَيْه، ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتنتعلنّهما. قال: فقال أبو جابر: مَهْ والله لقد أحفظت الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: والله لا أردُّهما، قال: والله يا أبا صالحٍ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه. قال: ثم انصرف الأنصار إلى «المدينة» - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً، فآذوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: «إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها» ، فأمرهم بالهجرة إلى «المدينة» ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، فأول من هاجر إلى «المدينة» : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ، ثم عامر بن ربيعة، ثُم عبد الله بن جحش، ثم تابع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرْسَالاً إلى «المدينة» ، فجمع الله أهْلَ «المدينة» - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً﴾ [آل عمران: 103] يا معشر الأنصار قبل الإسلام ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ بالإسلام ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ أي: فصرتم. و «أصبح» من أخوات «كان» فإذا كانت ناقصة، كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونَصْب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً، واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح، تقول: أصبح زيد، أي دخل في الصباح، ومثلها - في ذلك - «أمسى» قال تعالى ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] وقال: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: 137] . وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح» ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب، فيقول: أنا غداً مسافر، فيأتيه الناس بحوائجهم، ويقيم، ويترك السفر، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه. والمعنى: فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى «صار» عملاً ومعنًى. كقوله: [الخفيف] 1557 - فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ أي: صاروا. و «إخواناً» خبرها، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وتكون بمعنى: «صار» - وأن تكون تامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون «إخْناناً» خبرها، و «بنعمته» متعلق به لما فيه من معنى الفعل، أي: تآخيتم بنعمته، والباء للسببية. وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب «أصْبَحْتم» ، وقد عُرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصْبَحْتُمْ» ، أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» ؛ لأنه في الأصل - صفة له. وجوَّزوا أن تكون «بِنِعْمَتِهِ» هو الخبر، و «إخواناً» حال والباء بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى: «صار» جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامة، فإخواناً حال، و «بِنِعْمَتِهِ» فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية. قال ابن عطية: «فأصْبَحْتُمْ» عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار، وفيه مبدأ الأعمال، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب. ومنه قول الربيع بن ضَبع: [المنسرح] 1558 - أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا قال أبو حيان: وهذا الذي ذكره - من أن «أصبح» للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما. قال شهاب الدين: وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً. والإخوان: جمع أخ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه، وعند غيره هي جمع. وقال بعضهم: إن الأخ في النسب - يُجْمَع على: «إخوة» ، وفي الدين يُجْمَع على: «إخوان» ، هذا أغلب استعمالهم، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة. قال أبو حاتم: قال أهل البصرة: الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، قال: وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء: إخوة، وإخوان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النسب، وقال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ﴾ [النور: 61] وهذا في النسب. وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال. قال الزجاج: أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه، ولا يُخْفِي عنه شيئاً. قوله: ﴿وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ﴾ شَفَا الشيء: طرفه وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو، ويُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن ويكتب بالألف، ويُجْمَع على أشفاء، ويُسْتَعْمَل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمن الأول: ﴿شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: 109] ومن الثاني: هذه الآية. وأشْفَى على كذا: قاربه، ومنه: أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي منه، أو منها، إلا شَفاً، أي: إلا قليل. وقال بعضهم: يقال لما بين الليل والنهار، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها: شَفاً. وأنشد: [الرجز] 1559 - أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً، أوْ بِشَفَا ... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا قوله بلا بشفا: أي: غابت الشمسُ، وقوله: أو بشفا، أي: بقيت منه بقية. قال الراغب: والشفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبُرْء والشفاء. قال البخاري: قال النحاس: «الأصل في شفا - شَفَوٌ، ولهذا يُكْتَب بالألف، ولا يمال» . وقال الأخفش: «لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو» ؛ لأن الإمالةَ من الياء. قال المهدويّ: «وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان» . قوله: ﴿فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ في عَود هذا الضمير وجوه: أحدها: أنه عائد على «حُفْرَةٍ» . والثاني: أنه عائد على «النَّارِ» . قال الطبريّ: إن بعض الناس يُعيده على الشفا، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير: [الوافر] 1560 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ قال ابن عطية: «وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة» . قال أبو حيان: «وأقول: لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذِكْرُ الحفرة، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه، وليس أحد جُزْأي الإسناد، وكذا لو قلتَ: زيد ضرب غلامَ هند، لم تُحَدِّث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه، وأما ذكر: «النَّارِ» فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد، وليست أيضاً محدَّثاً عنها، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى» . قال الزجَّاج: «وقوله:» مِنْهَأ «الكناية راجعة إلى النار، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة» . وقال غيره: «الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها» . قال الواحديّ: على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف، كقول جرير: [الوافر] 1561 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ كذلك قول العجاج: [الرجز] 1562 - طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي قال: وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، فإن مَرَّ السنين هو المسنون، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة، فذكَّر الشَّفَا، وعادت الكناية إلى الحفرة. وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح. قال بعضهم: «شَفَا الحُفْرة، وشفتها: طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث» . والإنقاذ: التخليص والتنحِية. قال الأزهَريُّ: «يقال: أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال: فرس نقيذ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم» . والحفرة: فُعْلَة بمعنى: مفعولة، كغُرْفة بمعنى: مغروفة. فصل قيل معناه: إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم، كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حَرْفها، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة، بعد أن قربوا من الوقوع فيها. قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد. قوله تعالى: ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله﴾ نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي: يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها. قال الجبائي: «الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء» . قال الواحدي: إن المعنى: لتكونوا على رَجاء هدايته. وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء، وعلى مذهبنا قد لا يريده. وأجاب غيره بأن كلمة «لَعَلَّ» للترجي، والمعنى: أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك. قوله: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير﴾ اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله﴾ ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ﴾ يجوز أن تكون التامة، أي: ولتوجد منكم أمة، فتكون «أمَّةٌ» : فاعلاً، و «يَدْعُونَ» : جملة في محل رفع صفة ل «أمة» ، و «مِنْكُمْ» متعلق ب «تكن» على أنها تبعيضية. ويجوز أن يكون: «مِنْكُمْ» متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من «أمَّةٌ» إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة. ويجوز أن تكون الناقصة، ف «أمةٌ» اسمها، و «يَدْعُونَ» خبرها، و «مِنْكُمْ» متعلق إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمةٌ» . ويجوز أن يكون «مِنْكُمْ» هو الخبر، و «يَدْعُونَ» صفة ل «أمة» ، وفيه بُعد. وقرأ العامة: «وَلْتَكُنْ» بسكون اللام. وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها، وهو الأصل. وقوله: ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]-؛ لأن اسم «الْخَيْر» يقع عليهما، بل هما أعظم الخيور. فصل قال بعض العلماء: «مِنْ» - هنا - ليست للتبعيض، لوجهين: الأول: أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة. الثاني: أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه - فيكون معنى الآية: كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. وكلمة: «مِنْ» : إنما هي للتبيين، كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر، والمراد: جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ، فيسقط بفعل البعض، كقوله تعالى: ﴿انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ [التوبة: 41] ، وقوله: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [التوبة: 39] فالأمر عامٌّ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين: أحدهما: أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين. الثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة﴾ [الحج: 41] وليس كل الناس يُمَكنون. وقوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقُمْ بذلك بعضُكم. وقال الضَّحَّاك: المراد بهذه الآية: أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلّمون الناس. قال القُرْطُبِيُّ: «وقرأ ابنُ الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» . قال ابن الأنباري: «هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم. فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين» . فصل قال المفسرون: الدعوة إلى الخير - أي: إلا الإسلام - والأمر بالمعروف، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي، ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي: العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون، وقد تقدم تفسيره. قال - عليه السلام -: «مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ» وقال - أيضاً -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات﴾ . قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة. وقال أبو أمامةُ: هم الحرورية بالشام. وقال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال: كلاب النار كانوا مؤمنين، فكفروا بعد إيمانهم، ثُمَّ قرأ: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ الآية. وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ» . وذكر الفعلَ في قوله: ﴿وجَآءَهُمُ البينات﴾ للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل. وقيل: لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً. والتفرق والافتراق واحد، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس -، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا «فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ، وهو أعلم بلغة الصحابة، وبكلام النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال القرطبي: وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام، وبالتثقيل في الأبدان» . قال ثعلب: «أخبَرَني ابن الأعرابيّ، قال: يقال: فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا» . فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، وكلام أبي برزة يرد هذا. وقال بعضهم: ﴿تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ معناهما مختلف. فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين. وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ. وقيل: تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ. قوله: ﴿وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يعني: بسبب تفرُّقهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب