الباحث القرآني

لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ، وصحة دينِ الإسلام، وذكر صفاتِ المخالفين، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين. قوله: «اللَّهُمَّ» اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ. قال البصريون: الأصل: يا الله، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من «يا» بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر، كقوله: [الرجز] 1378 - وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا ... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا وقَوْلِ الآخر: [الرجز] 1379 - إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقُولُ: يَا اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا وقال الكوفيون: الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ، تقديره: أمَّنَا بخير، أي: اقْصِدنا به، من قولك: أمَمْتُ زيداً، أي: قصدته، ومنه: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ [المائدة: 2] أي: قاصديه، وعلى هذا فالجمع بين «يا» والميم ليس بضرورةٍ عندهم، وليست عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ: اللهمَّ أمَّنا بخير، وقال تعالى: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفالِ: 32] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به، فلو كانت الميمُ بقيةَ «أمَّنَا» لفسد المعنى، فبان بُطْلانهُ. وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ، فلا يجوز أن يقع في غيره، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً، أنشد الفرّاء: [مخلّع البسيط] 1380 - كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله: يسمعها. ولا يجوز تخفيفُ الميم، وجوَّزه الفراء، وأنشد البيت: بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك. قال بعضهم: هذا خطأ فاحشٌ، وذلك لأن الميم بقية «أمَّنَا» - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك، بل الرواية: [مخلّع البسيط] 1381 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ قال شهابُ الدينِ: «وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك» . ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل: يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل، كما قالوا - في وَيلمِّهِ -: وَيْلٌ لأمِّهِ. وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول: يا اللهم، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ، بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال: يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك -؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن «ما أكرمه» معناه: شيء أكرمه، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب، فكذا هنا. وأجاب عن الرد الثاني بقوله: مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال: يا اللهمَّ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللهمّ، وقول البصريين: هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن. وقولهم: كان يلزم ذكر حرف النداء، فقد يُحْذَف حرف النداءِ، كقوله: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ [يوسف: 46] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف. واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه: أحدها: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال: الله يا، وهذا لا يجوز ألبتة. ثانيها: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ، فيقال: زيدُمَّ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد، يا بَكر. ثالثها: لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه. ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم: لا هُمَّ - أي: اللهم. قال الشاعرُ: [الراجز] 1382 - لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ وقال آخرُ: [الرجز] 1383 - لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا ... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا قوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ فيه أوجه: أحدها: أنه بدل من «اللَّهُمَّ» . الثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادًى ثانٍ، حُذِف منه حرف النداء، أي: يا مالكَ الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ. الرابع: أنه نعت ل «اللَّهُمَّ» على الموضع، فلذلك نُصِبَ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء، وأجاز المبرّدُ ذلك، واختارَه الزّجّاج، قالا: لأن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع «يا» . وانتصر الفارسيّ لسيبويه، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد «اللَّهُمَّ» ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات، وجب أن لا يُوصف. والأسماء المناداة، المفردة، المعرفة، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف، فأما قوله: [الرجز] 1384 - يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ ... [وقوله] : [الرجز] 1385 - يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ وقوله: [الوافر] 1386 - فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى ... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا فإن الأول على أنت. والثاني على نداء ثانٍ والثالث: على إضمار أعني. فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا، كان «اللهم» أولى أن لا يوصَف، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ، فحقه أن لا يوصَف، كما لا يوصَف حيَّهَلْ. قال شهابُ الدينِ: «هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه، وإن كان لا ينتهض مانعاً» . قوله: تُؤتِي «هذه الجملة، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً، مبينة لقوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ ويجوز أن تكون حالاً من المنادى. وي انتصاب الحال من المنادى خلاف، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة: [البسيط] 138 - يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ » بالعلياء «حالاً من» دار مية» ، وكذلك «أقوت» . والثالث من وجوه «تُؤتِي» : أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر، أي: أنت تؤتي، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالية. قوله: «تشاء» أي: تشاء إيتاءَه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به، والنزع: الجذب، يقال: نَزَعَه، ينزعه، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل، ومنه: نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها، ويعبر به عن الإزالة، يقال نزع الله عنك الشر - أي: أزاله - ومنه قوله تعالى: ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ [الأعراف: 27] ومثله هذه الآية، فإن المعنى وتُزيل الملك. * فصل في بيان سبب النزول في سبب النزول وجوهٍ: أحدها: قال ابن عباس وأنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهاتَ، هيهاتَ، من أين لمحمد ملك فارس والروم - وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك -! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. وثانيها: روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ. فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر، وكبر المسلمون، وقال عليه السلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، ثم ضرب الثالثة فقال: أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا» ، فقال المنافقون: ألا تعجبوا من نبيكم، يَعِدُكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا، فنزلت هذه الآية. وثالثها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم، ويردَّ ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم. وقيل: نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ، في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم، وأن عيسى - عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ إلى قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ . فصل قوله: ﴿مَالِكَ الملك﴾ أي: مالك العباد وما ملكوا. وقيل: مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه -: «أَنَا اللهُ، مالك الملك وملك الملوك، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم» . فصل قال الزمخشريُّ: «مالك الملك، أي: يملك جنس الملك، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون» . قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي: «تُؤتِي الْمُلْكَ» يعني النبوَّة والرسالة، كما قال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: 54] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ. فإن قيل: قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا، وذلك لا يجوزُ. فالجوابُ من وجهين: الأول: أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال: إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَحّ أن يُقَالَ: إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب. الثاني: أن يكون المراد من قوله: ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ ، أي: تحرمهم، ولا تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ. وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام -: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88] وقول الأنبياء: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا﴾ [الأعراف: 89] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط -. وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ: إحداها: الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً. الثانية: الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا: إن محمداً فقير ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31] . الثالثة: اليهود الذين قالوا: إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة. الرابعة: المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 54] . وقيل: المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء: أحدها: كثرة المال والجاه. الثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه. الثالث: أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع. أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها. وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله. وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى. فصل قال الكعبيُّ: قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ ، أي: بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: 124] وقوله - في العبد الصالح -: ﴿إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾ [البقرة: 247] فجعله سبباً للملك. وقال الجبائيُّ: هذا الملك مختص بملوك العَدْل، فأما ملوك الظلم، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه، ومنعهم من ذلك، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ: وأما الظالمون فلا، قالوا: ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه، وأمره بأن يرده على مالكه، فكذا ههنا. قالوا: وأما النزعُ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين، ونزع الملك يكون بوجوه: منها: بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدرة، والحواسّ. ومنها: بورود الهلاكِ، والتلف على الأموال. ومنها: أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل، ويؤتيه القُوة، والنُّصرة عليه، فيقهره، ويسلب ملكه، فيجوز أن يُضاف هذا السلب، والنزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ، على يد الرسول - عليه السلام. فالجوابُ: أن تقول: حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل، وذلك يقتضي نفي الصانع، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة، فلم يبق إلا أن يقال: بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً، والقلوب تميل إليه، والنصر قريب له، والظفر جليس معه، وأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله. ولذلك قال بعض الشعراءِ: [الكامل] 1388 - لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي ... بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ وقيل: قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ محمول على جميع أنواع الملكِ، فيدخل فيه ملك النبوةِ، وملكُ العلمِ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ، وملكُ البقاءِ والقدرةِ، وملك محبة القلوبِ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام، فلا يجوز التخصيص من غير دليل. وقال الكلبيُّ: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ العرب، ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ أبا جهل وصناديد قريش. وقيل: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ آدم وولده، ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ﴾ من إبليس وجنده. قوله: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ . قال عطاء: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ المهاجرين والأنصار، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ فارس والروم. وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ محمداً وأصحابه، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ أبا جهل وأصحابه، حين حُزَّت رؤوسُهم، وألْقُوا في القليب. وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالإيمان والهداية، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالكفر والضلالة. وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالطاعة، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالمعصيةِ. وقيل: ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالنصر، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالقهرِ. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالغنى، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالفقرِ. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالقناعة والرِّضا، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بالحرص والطمع. قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ في الكلام حذف معطوف، تقديرُهُ: والشَّرُّ، كقَوْلِهِ تَعَالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: 81] ، أي: وَالبَرْدَ. وكَقَوْلِهِ: [الطويل] 1389 - كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا ... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا أي ويدها. قال الزمَخْشَريُّ: «فَإن قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ:» بِيَدِكَ الْخَيْرُ «دُونَ الشَّرِّ؟ قلت: لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ. فقال: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ» . وقيل: خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ. وقيل: هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه، وَمِثْلُه: «والشر ليس إليك» ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80] . فصل الألف وَاللامُ فِي «الْخَيْرِ» يُوجِبَانِ العُمُوم، وَالْمَعْنَى: [أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ] بقدرتك، فَقولُهُ: «بِيَدِكَ» لاَ بِيَدِ غَيْركَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6] ، أي: لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ. وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى. فإن قيل: هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ كان معناه: ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده. فالجوابُ: أن قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير، وبيده ما سوى الخيرِ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى. قال القاضي: «كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه، وهداهم إليه، لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى» . قال ابن الخطيبِ: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وهذا خلافُ النص» . وقوله: ﴿إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه، والإعزار، والإذلال. قوله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار﴾ يقال: وَلَجَ، يَلِجُ، وُلُوجاً، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك «وَعْدًا» ، واتَّلَجَ، يتَّلِجُ، اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلج، يَوْتَلِجُ، اوتِلاَجاً، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال، نحو: اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً. قال الشاعر: [الطويل] 1390 - فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك. وقول من قال: معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيءٍ. وقيل: المعنى: أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار -، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر. قال ابن الخطيب: «والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل، كان ما نقص منه زيادة في الآخر» . قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ اختلف القراء في لفظة «الْمَيِّتِ» فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ «الْمَيْتِ» من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً، في جميع القرآن، سواء وصف به الحيوان نحو: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ [آل عمران: 27] أو الجماد نحو: ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ [فاطر: 9]- مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] ، وقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: 17]- في إبراهيم - مما لم يمت بعد، فإن الكل ثقلوه، وكذلك لفظ «الميتة» في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة﴾ [يس: 33] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله: ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ [الأنعام: 139] ، وقوله: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ [الزخرف: 11] ، وقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة﴾ [الأنعام: 145] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه﴾ [الأنعام: 122] ، وفي الحجرات: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا﴾ [الحجرات: 12] ، وفي يس: ﴿الأرض الميتة﴾ [يس: 33] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح، وهما بمعنًى؛ لأن «فَيْعِل» يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه، فيقال: هَيْن وهيِّن، لَيْن وليِّن، ميْت وميِّت، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله: [الخفيف] 1391 - لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً ... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ وزعم بعضهم أن «ميتاً» بالتخفيف - لمن وقع به الموت، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ، كقولهً - تعالى -: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] . وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله: ﴿الميتة والدم﴾ ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً﴾ [الأنعام: 139] ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة﴾ ، وقوله: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ [الزخرف: 11] . وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل «ميِّت» مَيْوِت، فأدغم، وفي وزنه خلاف، هل وزنه «فَيْعِل» - وهو مذهب البصريين - أو «فَعْيِل» - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ، قالوا: لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه، وأجاب البصريون عن قولهم: لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح، ويدل على عَدم التلازم «قُضاة» جمع قاضٍ وفي «قضاة» خلاف طويل ليس هذا موضعه. واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه «فَعْيِلاً» لوجب أن يصح، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو: طويل، وعويل، وقويم، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله «فَعْيِل» لمخالفة نظائره، وهو ردٌّ حسنٌ. فصل قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - وهي ميتة - والطير من البيضة، وبالعكس. وقال الحسنُ وعطاء: يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح. وقال الزَّجَّاج: يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات، قال القفّال: «والكلمة محتملة للكل. أما الحيوان والنطفة فقال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] . والكافر والمؤمن فقال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122] ، أي: كافراً فهديناه» . قال القرطبيُّ: روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، قال: مَنْ هذه؟ قلن: إحدى خالاتك، قال: ومَنْ هِي؟ قلن: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سبحان الذي يخرج الحي من الميت» . وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً. وأما النبات والحب فقال تعالى: ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: 9] . قوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل، أي: ترزقه وأنت لم تحاسبه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول، أي: غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة: ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ . واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع: منها: التجنيس المماثل في قوله تعالى: ﴿مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك﴾ . ومنها: الطباق، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله: «تُؤتي» وتَنْزعُ «وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله: ﴿بِيَدِكَ الخير﴾ أي: والشَّرُّ - عند بعضهم -، وفي قوله:» اللَّيْل «و» النَّهَار «و» الحيّ» و «الميّت» . ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ، والصدورِ على الأعجاز في قوله: ﴿تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل﴾ ، وفي قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ. وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله: ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ﴾ وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه، والحذف لفهم المعنى. فصل قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ: الأول: بمعنى التعبِ، قال تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ . الثاني: بمعنى العدد، كقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] أي: بغير عَددٍ. الثالث: بمعنى المطالبة، قال تعالى: ﴿فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: 39] [أي: بغير مطالبة. فصل عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ فاتحةَ الكتابِ، وآية الكرسي، وآيتين من آل عمرانَ - وهما ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ [آل عمران: 18 - 19] ، ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ مُعلَّقاتٌ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ، قُلْنَ: يا ربِّ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ، ونصرتُه منهم» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب