الباحث القرآني

(p-٢٨١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٤٣ ] ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إلا عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ "وكَذَلِكَ" أيْ كَما هَدَيْناكم إلى قِبْلَةٍ هي أوْسَطُ القِبَلِ وأفْضَلُها "جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا" أيْ عُدُولًا خِيارًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ تَعْلِيلٌ لِلْجَعْلِ المُنَوَّهِ بِهِ الَّذِي تَمَّتِ المِنَّةُ بِهِ عَلَيْهِمْ. واعْلَمْ أنَّ أصْلَ الشُّهُودِ والشَّهادَةِ الحُضُورُ مَعَ المُشاهَدَةِ. إمّا بِالبَصَرِ أوْ بِالبَصِيرَةِ. قالَ الرّازِيُّ: الشَّهادَةُ والمُشاهَدَةُ والشُّهُودُ هو الرُّؤْيَةُ، يُقالُ شاهَدْتُ كَذا إذا رَأيْتَهُ وأبْصَرْتَهُ، ولَمّا كانَ بَيْنَ الإبْصارِ بِالعَيْنِ، وبَيْنَ المَعْرِفَةِ بِالقَلْبِ مُناسَبَةٌ شَدِيدَةٌ، لا جَرَمَ قَدْ تُسَمّى المَعْرِفَةُ الَّتِي في القَلْبِ مُشاهَدَةً وشُهُودًا، والعارِفُ بِالشَّيْءِ شاهِدًا ومُشاهِدًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الدَّلالَةُ عَلى الشَّيْءِ شاهِدًا عَلى الشَّيْءِ لِأنَّها هي الَّتِي بِها صارَ الشّاهِدُ شاهِدًا. ولِما كانَ المُخْبِرُ عَنِ الشَّيْءِ والمُبَيِّنُ لِحالِهِ جارِيًا مَجْرى الدَّلِيلِ عَلى ذَلِكَ، سُمِّيَ ذَلِكَ المُخْبِرُ أيْضًا شاهِدًا. وبِالجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَن عَرَفَ حالَ شَيْءٍ، وكَشَفَ عَنْهُ كانَ شاهِدًا عَلَيْهِ. انْتَهى. والشَّهِيدُ أصْلُهُ الشّاهِدُ والمُشاهِدُ لِلشَّيْءِ والمُخْبِرُ عَنْ عِلْمٍ حَصَلَ بِمُشاهَدَةِ بَصَرٍ أوْ بَصِيرَةٍ. وهو، بِالمَعْنى الثّالِثِ، مِنَ النُّعُوتِ الجَلِيلَةِ. ولِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ النَّبِيُّونَ والسّادَةُ والأئِمَّةُ. كَما تَرى في هَذِهِ الآيَةِ وفي آيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى (p-٢٨٢)هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] وآيَةِ ﴿وادْعُوا شُهَداءَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣] ﴿والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩] ثُمَّ إنَّ في اللّامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ وجْهَيْنِ (الأوَّلُ) إنَّها لامُ الصَّيْرُورَةِ والعاقِبَةِ. أيْ فَآلَ الأمْرُ بِهِدايَتِكم وجَعْلِكم وسَطًا أنْ كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلى النّاسِ، وهم أهْلُ الأدْيانِ الأُخَرِ. أيْ بُصَراءُ عَلى كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وما غَيَّرُوا وبَدَّلُوا وأشْرَكُوا وألْحَدُوا. مِمّا قَصَّ عَلَيْكم في الآياتِ قَبْلُ، حَتّى أحَطْتُمْ بِهِ خُبَرًا. فَعَرَفْتُمْ حَقَّ دِينِهِمْ مِن باطِلِهِ، ووَحْيِهِ مِن مُخْتَرَعِهِ. يَعْنِي: وإذا شَهِدْتُمْ ذَلِكَ مِنهم وأبْصَرْتُمْ فاشْكُرُوا مَوْلاكم عَلى ما أوْلاكم، وعافاكم مِمّا ابْتَلى بِهِ سِواكم، حَيْثُ وفَّقَكم لِلْمَنهَجِ السَّوِيِّ وهَداكم لِلْمَهِيعِ الرَّضِيِّ، وكَذَلِكَ صارَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا بِأنَّكم عَرَفْتُمُ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ، والهُدى مِنَ الضَّلالِ، والنُّورَ مِنَ الظُّلُماتِ، بِما بَلَغَكم مِن وحْيِهِ وأراكم مِن آياتِهِ. فَعَظُمَتِ المِنَّةُ لِلَّهِ عَلَيْكم؛ إذْ أصْبَحْتُمْ مُهْتَدِينَ بَعْدَ الضَّلالَةِ، عُلَماءَ بَعْدَ الجَهالَةِ. فَفِيهِ إشارَةٌ إلى تَحْذِيرِ المُؤْمِنِينَ مِن أنْ يَزِيغُوا بَعْدَ الهُدى، كَما زاغَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَعى عَلَيْهِمْ ضَلالَتَهم، فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ كَما قامَتْ مِن أُولَئِكَ. (الوَجْهُ الثّانِي) أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، عَلى أصْلِها. والمَعْنى: جَعَلْناكم أُمَّةً خِيارًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ، أيْ رُقَباءَ قُوّامًا عَلَيْهِمْ بِدُعائِهِمْ إلى الحَقِّ وإرْشادِهِمْ إلى الهُدى وإنْذارِهِمْ مِمّا هم فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ والضَّلالِ، كَما كانَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكم بِقِيامِهِ عَلَيْكم بِما بَلَغَكم وأمَرَكم ونَهاكم وحَذَّرَكم وأنْذَرَكم. فَتَكُونُ الآيَةُ نَظِيرَ آيَةِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ (p-٢٨٣)لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] ورُبَّما آثَرَ هَذا المَعْنى مَن قالَ: خَيْرُ ما فُسِّرَ القُرْآنُ بِالقُرْآنِ، لِتُماثِلَ الآيَتَيْنِ بادِئَ بَدْءٍ. فَإنَّ الوَسَطَ بِمَعْنى الخِيارِ. وقَدْ صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ "خَيْرَ أُمَّةٍ" وإلى هَذا المَعْنى يُشِيرُ قَوْلُ مُجاهِدٍ في الآيَةِ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى الأُمَمِ اليَهُودِ والنَّصارى والمَجُوسِ: أيْ شُهَداءُ عَلى حِقِّيَّةِ رِسالَتِهِ، وذَلِكَ بِالدَّعْوَةِ إلَيْها، والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ الَّذِي هو قُطْبُ الدَّعْوَةِ ورُوحُها. وبَعْدَ كِتابَةِ هَذا رَأيْتُ السَّمَرْقَنْدِيَّ في تَفْسِيرِهِ نَقَلَ خُلاصَةَ ما قُلْناهُ. وعِبارَتُهُ: ولِلْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ "وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا" أيْ عُدُولًا "لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ" إلَخْ يَقُولُ: إنَّكم حُجَّةٌ عَلى جَمِيعِ مَن خالَفَكم. ورَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ حُجَّةٌ عَلَيْكم. والشَّهادَةُ في اللُّغَةِ هو البَيانُ. ولِهَذا سُمِّيَ الشّاهِدُ بَيِّنَةً؛ لِأنَّهُ يُبَيِّنُ حَقَّ المُدَّعِي. يَعْنِي إنَّكم تُبَيِّنُونَ لِمَن بَعْدَكم، والنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ يُبَيِّنُ لَكُمُ. انْتَهى. وأوْضَحَ ذَلِكَ الرّاغِبُ الأصْفَهانِيُّ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ فَقالَ: إنْ قِيلَ: عَلى أيِّ وجْهٍ شَهادَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى الأُمَّةِ وشَهادَةُ الأُمَّةِ عَلى النّاسِ ؟ قِيلَ: الشّاهِدُ هو العالِمُ بِالشَّيْءِ المُخْبِرُ عَنْهُ مُثْبِتًا حُكْمَهُ. وأعْظَمُ شاهِدٍ مَن ثَبَتَ شَهادَتَهُ بِحُجَّةٍ، ولِما خَصَّ اللَّهُ تَعالى الإنْسانَ بِالعَقْلِ والتَّمْيِيزِ بَيْنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وكَمَّلَهُ بِبَعْثَةِ الأنْبِياءِ، وخَصَّ هَذا الأُمَّةَ بِأتَمِّ كِتابٍ، كَما وصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقَوْلِهِ: ﴿ونَـزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] (p-٢٨٤)فَأفادَناهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وبَيَّنَهُ لَنا- صارَ حُجَّةً وشاهِدًا أنْ يَقُولُوا: ﴿ما جاءَنا مِن بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ﴾ [المائدة: ١٩] وجَعَلَ أُمَّتَهُ، المُتَخَصِّصَةَ بِمَعْرِفَتِهِ، شُهُودًا عَلى سائِرِ النّاسِ. (إنْ قِيلَ) هَلْ أُمَّتُهُ شُهُودٌ كُلُّهم أمْ بَعْضُهم ؟ (قِيلَ) كُلُّهم مُمْكِنٌ مِن أنْ يَكُونُوا شُهَداءَ. وذَلِكَ بِشَرِيطَةِ أنْ يُزَكُّوا أنْفُسَهم بِالعِلْمِ والعَمَلِ الصّالِحِ، فَمَن لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ شاهِدًا ومَقْبُولًا. ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩] وعَلى هَذا قالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥] فالقِيامُ بِالقِسْطِ مُراعاةُ العَدالَةِ، وهِيَ، بِالقَوْلِ المُجْمَلِ ثَلاثٌ: عَدالَةٌ بَيْنَ الإنْسانِ ونَفْسِهِ -وعَدالَةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ- وعَدالَةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فَمَن رَعى ذَلِكَ فَقَدْ صارَ عَدْلًا شاهِدًا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. (إنْ قِيلَ) فَهَلْ هم شُهُودٌ عَلى بَعْضِ الأُمَّةِ أمْ عَلى النّاسِ كافَّةً ؟ (قِيلَ) بَلْ كُلٌّ شاهِدٌ عَلى نَفْسِهِ، وعَلى أُمَّتِهِ وعَلى النّاسِ كافَّةً، فَإنَّ مَن عَرَفَ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعالى وجُودَهُ، وعَدْلَهُ، ورَأْفَتَهُ، عَلِمَ أنَّهُ لَمْ يَغْفُلْ تَعالى عَنْهُ ولا عَنْ أحَدٍ مِنَ النّاسِ، ولا بَخِلَ عَلَيْهِمْ ولا ظَلَمَهم، ومَن عَلِمَ ذَلِكَ فَهو شاهِدٌ لِلَّهِ عَلى مَن في زَمانِهِ وعَلى (p-٢٨٥)مَن قَبْلَهُ ومَن بَعْدَهُ. وعَلى هَذا الوَجْهِ ما رُوِيَ في الخَبَرِ ««أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تَشْهَدُ لِلْأنْبِياءِ عَلى الأُمَمِ»» . انْتَهى كَلامُ الرّاغِبِ. والخَبَرُ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««يُدْعى نُوحٌ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ يا رَبُّ. فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكم ؟ فَيَقُولُونَ: ما أتانا مِن نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَن يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ. فَيَشْهَدُونَ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا»» . فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ وقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ جابِرٍ. أخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ. وعَنْ ثُلَّةٍ مِنَ التّابِعِينَ مِن قَوْلِهِمْ. وأقُولُ: قَدْ بَيَّنّا مِرارًا، أنَّ مِثْلَ هَذا الخَبَرِ وكُلَّ ما يُرْوى مَرْفُوعًا أوْ غَيْرَ مَرْفُوعٍ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَكُلُّهُ يُفِيدُ أنَّ لِلْآيَةِ عُمُومًا يَشْمَلُ ما ذُكِرَ، لا أنَّها خاصَّةٌ بِهِ لا يُسْتَفادُ مِنها غَيْرُهُ. كَما أوْضَحْناهُ في المُقَدِّمَةِ في قَوْلِهِمْ: نَزَلَتِ الآيَةُ في كَذا. وعَلَيْهِ، فَلا تَنافِيَ بَيْنَ ما يُفْهَمُ مِن سِياقِ الآيَةِ أوْ ما يَتَقاضاهُ مَعْناها لُغَةً، مِن حَيْثُ عُمُومُها، أوْ ما يُحْمَلُ عَلَيْها مِن نَظائِرِها في التَّنْزِيلِ الكَرِيمِ، وبَيْنَ ما يُرْوى في تَفْسِيرِها، فَمَآلُ ما يَتَعَدَّدُ مِن سَبَبِ النُّزُولِ في آيَةٍ ما، أوْ ما يَكْثُرُ مِنَ الآثارِ في وُجُوهِها، كُلُّهُ مِن بابِ تَفْسِيرِ العامِّ بِبَعْضِ ما يَتَناوَلُهُ لَفْظُهُ. ولِذَلِكَ يَكْثُرُ في بَعْضِ طُرُقِ الرِّواياتِ؛ ثُمَّ تَلا النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُ تَعالى. أوْ: ثُمَّ قَرَأ. أوِ اقْرَأُوا إنْ شِئْتُمْ. مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ذَكَرَتِ الآيَةُ حُجَّةً لِما أخْبَرَ بِهِ؛ لِأنَّهُ مِمّا يَنْدَرِجُ فِيها. فاحْرِصْ عَلى ذَلِكَ. (p-٢٨٦)تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: اسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الإجْماعَ حُجَّةٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالعَدالَةِ. والعَدْلُ هو المُسْتَحِقُّ لِلشَّهادَةِ وقَبُولِها، فَإذا اجْتَمَعُوا عَلى شَيْءٍ وشَهِدُوا بِهِ لَزِمَ قَبُولُهُ، فَإجْماعُ الأُمَّةِ حَقٌّ؛ لا تَجْتَمِعُ الأُمَّةُ - والحَمْدُ لِلَّهِ - عَلى ضَلالَةٍ. كَما وصَفَها اللَّهُ بِذَلِكَ في الكِتابِ فَقالَ تَعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠] وهَذا وصْفٌ لَهم بِأنَّهم يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، ويَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. كَما وصَفَ نَبِيَّهم ﷺ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وبِذَلِكَ وصَفَ المُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [التوبة: ٧١] فَلَوْ قالَتِ الأُمَّةُ في الدِّينِ بِما هو ضَلالٌ، لَكانَتْ لَمْ تَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ في ذَلِكَ، ولَمْ تَنْهَ عَنِ المُنْكَرِ فِيهِ، وقَدْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ شُهَداءَ عَلى النّاسِ. وأقامَ شَهادَتَهم مَقامَ شَهادَةِ الرَّسُولِ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَقُولُ: «مَرُّوا بِجِنازَةٍ فَأثْنَوْا عَلَيْها خَيْرًا فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ «وجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرى فَأثْنَوْا عَلَيْها شَرًّا فَقالَ «وجَبَتْ» . (p-٢٨٧)فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما وجَبَتْ ؟ قالَ: «هَذا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وهَذا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النّارُ؛ أنْتُمْ شُهَداءُ اللَّهِ في الأرْضِ»» . وعِنْدَ الحاكِمِ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ﴾ إلى آخِرِها. فَإذا كانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَهم شُهَداءَ، لَمْ يَشْهَدُوا بِباطِلٍ، فَإذا شَهِدُوا أنَّ اللَّهَ أمَرَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ أمَرَ بِهِ، وإذا شَهِدُوا أنَّ اللَّهَ نَهى عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ نَهى عَنْهُ. ولَوْ كانُوا يَشْهَدُونَ بِباطِلٍ أوْ خَطَأٍ لَمْ يَكُونُوا شُهَداءَ اللَّهِ في الأرْضِ. بَلْ زَكّاهُمُ اللَّهُ في شَهادَتِهِمْ، كَما زَكّى الأنْبِياءَ فِيما يُبَلِّغُونَ عَنْهُ أنَّهم لا يَقُولُونَ عَلَيْهِ إلّا الحَقَّ، وكَذَلِكَ الأُمَّةُ لا تَشْهَدُ عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ. هَذِهِ نُبْذَةٌ مِن كَلامِ الإمامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، في الإجْماعِ، مِن بَعْضِ رَسائِلِهِ. (الثّانِي) مِمّا يَتَعَلَّقُ أيْضًا بِهَذا المَقامِ، ما قالَهُ أيْضًا هَذا الإمامُ في رِسالَتِهِ إلى جَماعَةِ عَدِيِّ بْنِ مُسافِرٍ. ونَصُّهُ: فَعَصَمَ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ أنْ تَجْتَمِعَ عَلى ضَلالَةٍ، وجَعَلَ فِيها مَن تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. ولِهَذا كانَ إجْماعُهم حُجَّةً، كَما كانَ الكِتابُ والسُّنَّةُ حُجَّةً. ولِهَذا امْتازَ أهْلُ الحَقِّ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ والجَماعَةِ، عَنْ أهْلِ الباطِلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم يَتَّبِعُونَ الكِتابَ، ويُعْرِضُونَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وعَمّا مَضَتْ عَلَيْهِ جَماعَةُ المُسْلِمِينَ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، رَواها عَنْهُ أهْلُ السُّنَنِ والمَسانِيدِ، كالإمامِ أحْمَدَ، (p-٢٨٨)وأبِي داوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِمْ، أنَّهُ قالَ: ««سَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّها في النّارِ، إلّا واحِدَةً، وهي الجَماعَةُ»» . وفي رِوايَةٍ: ««مَن كانَ عَلى مِثْلِ ما أنا عَلَيْهِ اليَوْمَ، وأصْحابِي»» . وهَذِهِ الفِرْقَةُ النّاجِيَةُ أهْلُ السُّنَّةِ. وهم وسَطٌ في النِّحَلِ، كَما أنَّ مِلَّةَ الإسْلامِ وسَطٌ في المِلَلِ، فالمُسْلِمُونَ وسَطٌ في أنْبِياءِ اللَّهِ، ورُسُلِهِ، وعِبادِهِ الصّالِحِينَ، لَمْ يَغْلُوا فِيهِمْ كَما غَلَتْ في النَّصارى فَـ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (p-٢٨٩)وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] ولا جَفَوْا عَنْهم، كَما جَفَتِ اليَهُودُ، فَكانُوا يَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: ﴿ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] وكُلَّما جاءَهم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُهم كَذَّبُوا فَرِيقًا وقَتَلُوا فَرِيقًا. بَلِ المُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِرُسُلِ اللَّهِ، وعَزَّرُوهم، ونَصَرُوهم، ووَقَّرُوهم، وأحَبُّوهم، وأطاعُوهم، ولَمْ يَعْبُدُوهم، ولَمْ يَتَّخِذُوهم أرْبابًا. كَما قالَ تَعالى: ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: ٧٩] ﴿ولا يَأْمُرَكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكم بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٠] ومِن ذَلِكَ أنَّ المُؤْمِنِينَ تَوَسَّطُوا في المَسِيحِ، فَلَمْ يَقُولُوا: هو اللَّهُ، ولا ابْنُ اللَّهِ، ولا ثالِثُ ثَلاثَةٍ. كَما تَقُولُهُ النَّصارى. ولا كَفَرُوا بِهِ، وقالُوا عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا، حَتّى جَعَلُوهُ، ولَدَ غَيَّةٍ، كَما زَعَمَتِ اليَهُودُ. بَلْ قالُوا: هَذا عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ العَذْراءِ البَتُولِ، ورُوحٌ مِنهُ. وكَذَلِكَ المُؤْمِنُونَ وسَطٌ في شَرائِعِ دِينِ اللَّهِ، فَلَمْ يُحَرِّمُوا عَلى اللَّهِ أنْ يَنْسَخَ ما شاءَ، ويَمْحُوَ ما شاءَ ويُثْبِتَ. كَما قالَتْهُ اليَهُودُ. كَما حَكى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٢] وبِقَوْلِهِ (p-٢٩٠)﴿وإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا بِما أنْـزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْـزِلَ عَلَيْنا ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ وهو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١] ولا جَوَّزُوا لِأكابِرِ عُلَمائِهِمْ وعُبّادِهِمْ أنْ يُغَيِّرُوا دِينَ اللَّهِ، فَيَأْمُرُوا بِما شاؤُوا ويَنْهَوْا عَمّا شاؤُوا. كَما يَفْعَلُهُ النَّصارى. كَما ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَبَدُوهم ؟ قالَ: «ما عَبَدُوهم، ولَكِنْ أحَلُّوا لَهُمُ الحَرامَ فَأطاعُوهم، وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الحَلالَ فَأطاعُوهم»» . والمُؤْمِنُونَ قالُوا: لِلَّهِ الخَلْقُ والأمْرُ، فَكَما لا يَخْلُقُ غَيْرُهُ، لا يَأْمُرُ غَيْرُهُ. وقالُوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، فَأطاعُوا (p-٢٩١)كُلَّ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ. وقالُوا: إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ. وأمّا المَخْلُوقُ، فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُبَدِّلَ أمْرَ الخالِقِ تَعالى، ولَوْ كانَ عَظِيمًا. وكَذَلِكَ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ اليَهُودَ وصَفُوا اللَّهَ تَعالى بِصِفاتِ المَخْلُوقِ النّاقِصَةِ، فَقالُوا: هو فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ. وقالُوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. وقالُوا: إنَّهُ تَعِبَ مِنَ الخَلْقِ فاسْتَراحَ يَوْمَ السَّبْتِ. إلى غَيْرِ ذَلِكَ. والنَّصارى وصَفُوا المَخْلُوقَ بِصِفاتِ الخالِقِ المُخْتَصَّةِ بِهِ. فَقالُوا إنَّهُ يَخْلُقُ ويَرْزُقُ ويَغْفِرُ ويَرْحَمُ ويَتُوبُ عَلى الخَلْقِ، ويُثِيبُ ويُعاقِبُ. والمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. لَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ ولا نِدٌّ ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] فَإنَّهُ رَبُّ العالَمِينَ، وخالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وكُلُّ ما سِواهُ عِبادٌ لَهُ، فُقَراءُ إلَيْهِ. (p-٢٩٢)﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣] ﴿لَقَدْ أحْصاهم وعَدَّهم عَدًّا﴾ [مريم: ٩٤] ﴿وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥] ومِن ذَلِكَ: أمْرُ الحَلالِ والحَرامِ، فَإنَّ اليَهُودَ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] فَلا يَأْكُلُونَ ذَواتَ الظُّفْرِ مِثْلَ الإبِلِ والبَطِّ، ولا شَحْمَ الثَّرْبِ (الثَّرْبُ: شَحْمٌ رَقِيقٌ يُغْشِي الكَرِشَ والأمْعاءَ، وجَمْعُهُ ثُرُوبٌ) والكُلْيَتَيْنِ، ولا الجَدْيَ في لَبَنِ أُمِّهِ. إلى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعامِ واللِّباسِ وغَيْرِهِما. حَتّى قِيلَ: إنَّ المُحَرَّماتِ عَلَيْهِمْ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ نَوْعًا. والواجِبُ عَلَيْهِمْ مِائَتانِ وثَمانِيَةٌ وأرْبَعُونَ أمْرًا، وكَذَلِكَ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ في النَّجاساتِ حَتّى لا يُواكِلُوا الحائِضَ، ولا يُجامِعُوها في البُيُوتِ. وأمّا النَّصارى فاسْتَحَلُّوا الخَبائِثَ وجَمِيعَ المُحَرَّماتِ، وباشَرُوا جَمِيعَ النَّجاساتِ، وإنَّما قالَ لَهُمُ المَسِيحُ: ﴿ولأُحِلَّ لَكم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠] ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] وأمّا المُؤْمِنُونَ فَكَما نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ والَّذِينَ هم بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ يَأْمُرُهم بِالمَعْرُوفِ ويَنْهاهم عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ (p-٢٩٣)ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمُ فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهَذا بابٌ يَطُولُ وصْفُهُ، وهَكَذا أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ في الفِرَقِ. فَهم في بابِ أسْماءِ اللَّهِ وآياتِهِ وصِفاتِهِ، وسَطٌ بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ، الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْماءِ اللَّهِ وآياتِهِ، ويُعَطِّلُونَ حَقائِقَ ما نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ حَتّى يُشَبِّهُوهُ بِالعَدَمِ والمَواتِ. وبَيْنَ أهْلِ التَّمْثِيلِ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ لَهُ الأمْثالَ ويُشَبِّهُونَهُ بِالمَخْلُوقاتِ. فَيُؤْمِنُ أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بِما وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وما وصَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْيِيفٍ وتَمْثِيلٍ، وهم في بابِ خَلْقِهِ وأمْرِهِ وسَطٌ بَيْنَ المُكَذِّبِينَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِقُدْرَتِهِ الكامِلَةِ ومَشِيئَتِهِ الشّامِلَةِ وخَلْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ. وبَيْنَ المُفْسِدِينَ لِدِينِ اللَّهِ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ العَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ ولا قُدْرَةٌ ولا عَمَلٌ، فَيُعَطِّلُونَ الأمْرَ والنَّهْيَ والثَّوابَ والعِقابَ. فَيَصِيرُونَ بِمَنزِلَةِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] فَيُؤْمِنُ أهْلُ السُّنَّةِ بِأنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَيَقْدِرُ أنْ يَهْدِيَ العِبادَ، ويُقَلِّبَ قُلُوبَهم. وإنَّهُ ما شاءَ اللَّهُ كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَلا يَكُونُ في مُلْكِهِ ما لا يُرِيدُ، ولا يَعْجِزُ عَنْ إنْفاذِ مُرادِهِ. وإنَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأعْيانِ والصِّفاتِ والحَرَكاتِ. ويُؤْمِنُونَ أنَّ العَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ ومَشِيئَةٌ وعَمَلٌ. وأنَّهُ مُخْتارٌ. ولا يُسَمُّونَهُ مَجْبُورًا. إذِ المَجْبُورُ مَن أُكْرِهَ عَلى خِلافِ اخْتِيارِهِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ العَبْدَ مُخْتارًا لِما يَفْعَلُهُ. فَهو مُخْتارٌ مُرِيدٌ، واللَّهُ خالِقُهُ وخالِقُ اخْتِيارِهِ. وهَذا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. (p-٢٩٤)فَإنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا في ذاتِهِ ولا في صِفاتِهِ ولا في أفْعالِهِ. وهم في بابِ الأسْماءِ والأحْكامِ والوَعْدِ والوَعِيدِ، وسَطٌ بَيْنَ الوَعِيدِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أهْلَ الكَبائِرِ مِنَ المُسْلِمِينَ مُخَلَّدِينَ في النّارِ، ويُخْرِجُونَهم مِنَ الإيمانِ بِالكُلِّيَّةِ. ويُكَذِّبُونَ بِشَفاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ . وبَيْنَ المُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إيمانُ الفُسّاقِ مِثْلُ إيمانِ الأنْبِياءِ. والأعْمالُ الصّالِحَةُ لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ والإيمانِ، ويُكَذِّبُونَ بِالوَعِيدِ والعِقابِ بِالكُلِّيَّةِ. فَيُؤْمِنُ أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بِأنَّ فُسّاقَ المُسْلِمِينَ مَعَهم بَعْضُ الإيمانِ وأصْلُهُ. ولَيْسَ مَعَهم جَمِيعُ الإيمانِ الواجِبِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الجَنَّةَ. وأنَّهم لا يَخْلُدُونَ في النّارِ بَلْ يَخْرُجُ مِنها مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِن إيمانٍ، أوْ مِثْقالُ خَرْدَلَةٍ مِن إيمانٍ. وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ ادَّخَرَ شَفاعَتَهُ لِأهْلِ الكَبائِرِ مِن أُمَّتِهِ. وهم أيْضًا في أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَضِيَ عَنْهم، وسَطٌ بَيْنَ الغالِيَةِ الَّذِي يُغالُونَ في عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُفَضِّلُونَهُ عَلى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهُ الإمامُ المَعْصُومُ دُونَهُما، وأنَّ الصَّحابَةَ ظَلَمُوا وفَسَقُوا، وكَفَّرُوا الأُمَّةَ بَعْدَهم كَذَلِكَ، ورُبَّما جَعَلُوهُ نَبِيًّا أوْ إلَهًا. وبَيْنَ الجافِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَهُ وكُفْرَ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ويَسْتَحِلُّونَ دِماءَهُما ودِماءَ مَن تَوَلّاهُما. ويَسْتَحِبُّونَ سَبَّ عَلِيٍّ وعُثْمانَ ونَحْوَهُما. ويَقْدَحُونَ في خِلافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وإمامَتِهِ. وكَذَلِكَ في سائِرِ أبْوابِ السُّنَّةِ هم وسَطٌ. لِأنَّهم مُتَمَسِّكُونَ بِكِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ وما اتَّفَقَ عَلَيْهِ السّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ. انْتَهى. "وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها" أيْ ما شَرَعْنا القِبْلَةَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] أيْ ما شَرَعَها. و"الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها" لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْقِبْلَةِ إنَّما هو ثانِي مَفْعُولَيْ "جَعَلَ" أيْ وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أيْ في مَكَّةَ تَسْتَقْبِلُها قَبْلَ (p-٢٩٥)الهِجْرَةِ، وهي الكَعْبَةُ. يَعْنِي: وما رَدَدْناكَ إلَيْها إلّا امْتِحانًا لِلنّاسِ وابْتِلاءً. أوْ "كُنْتَ عَلَيْها" بِمَعْنى صِرْتَ عَلَيْها الآنَ. كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠] أوْ بِمَعْنى كُنْتَ عَلى تَطَلُبِها، أيْ حَرِيصًا عَلَيْهِ، وراغِبًا فِيهِ. كَما يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدُ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيَةَ. وعَلى هَذِهِ الأوْجُهِ، فَتَكُونُ الآيَةُ بَيانًا لِلْحِكْمَةِ في جَعْلِ الكَعْبَةِ قِبْلَةً، أوْ مَعْنى "الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها": قَبْلَ وقْتِكَ هَذا، وهي بَيْتُ المَقْدِسِ. أيْ: إنَّما شَرَعْنا لَكَ التَّوَجُّهَ أوَّلًا إلَيْهِ ثُمَّ صَرَفْناكَ عَنْهُ إلى الكَعْبَةِ لِيَظْهَرَ حالُ مَن يَتَّبِعُكَ، حَيْثُما تَوَجَّهَتْ، مِن غَيْرِهِ. فَتَكُونُ الآيَةُ بَيانًا لِلْحِكْمَةِ في جَعْلِ بَيْتِ المَقْدِسِ قِبْلَةً أوَّلًا. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ الحِكْمَةَ هو التَّمْيِيزُ بَيْنَ النّاسِ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ في كُلِّ ما يُؤْمَرُ بِهِ، فَيَثْبُتُ عِنْدَ تَقَلُّبِ الأحْكامِ بِما في قَلْبِهِ مِن صِدْقِ التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ والتَّوَجُّهِ لَهُ أيّانَ ما وجَّهَهُ "مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ" أيْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ فَيُنافِقُ أوْ يَكْفُرُ مِمَّنْ كانَ يُظْهِرُ الِاتِّباعَ. وأصْلُ المُنْقَلِبِ عَلى عَقِبَيْهِ: الرّاجِعُ مُسْتَدِيرًا في الطَّرِيقِ الَّذِي قَدْ كانَ قَطَعَهُ مُنْصَرِفًا عَنْهُ. اسْتُعِيرَ لِكُلِّ راجِعٍ عَنْ أمْرٍ كانَ فِيهِ مِن دِينٍ أوْ خَيْرٍ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَدِ ارْتَدَّ، في مِحْنَةِ اللَّهِ أصْحابَ رَسُولِهِ في القِبْلَةِ، رِجالٌ مِمَّنْ كانَ قَدْ أسْلَمَ، وأظْهَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُنافِقِينَ مِن (p-٢٩٦)أجْلِ ذَلِكَ نِفاقَهم. وقالُوا: ما بالُ مُحَمَّدٍ يُحَوِّلُنا مَرَّةً إلى هَهُنا ومَرَّةً إلى هَهُنا ؟ وقالَ المُسْلِمُونَ، فِيمَن مَضى مِن إخْوانِهِمُ المُسْلِمِينَ وهم يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ: بَطَلَتْ أعْمالُنا وأعْمالُهم وضاعَتْ. وقالَ المُشْرِكُونَ: تَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ في دِينِهِ. فَكانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وتَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ. انْتَهى. (لَطِيفَةٌ) العَقِبَيْنِ تَثْنِيَةُ عَقِبٍ وهو مُؤَخَّرُ القَدَمِ. والِانْقِلابُ عَلَيْهِما اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وهَذِهِ الِاسْتِعارَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أدْبَرَ واسْتَكْبَرَ﴾ [المدثر: ٢٣] وكَقَوْلِهِ: ﴿كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [القيامة: ٣٢] (تَنْبِيهٌ) قالَ الرّاغِبُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ما وجْهُ قَوْلِهِ "إلّا لِنَعْلَمَ" وذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِفادَةَ عِلْمٍ، ولَمْ يَزَلْ تَعالى عالِمًا بِما كانَ وبِما يَكُونُ ؟ (قِيلَ): إنَّ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ الَّتِي لَوْلا السَّمْعُ لَما تَجاسَرْنا عَلى إطْلاقِها عَلَيْهِ تَعالى. ومَجازُ ذَلِكَ عَلى أوْجُهٍ: (الأوَّلُ) أنَّ اللّامَ في مِثْلِ ذَلِكَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: حُدُوثَ الفِعْلِ في نَفْسِهِ وحُدُوثَ العِلْمِ بِهِ. ولِما كانَ عِلْمُ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ، صارَ اللّامُ فِيهِ مُقْتَضِيًا حُدُوثَ الفِعْلِ لا حُدُوثَ العِلْمِ. (والثّانِي) أنَّ العِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ عَلى ما هو بِهِ. واللَّهُ تَعالى عَلِمَهم، قَبْلَ أنْ يَتْبَعُوهُ، غَيْرَ تابِعِينَ. وبَعْدَ أنْ تَبِعُوهُ عَلِمَهم تابِعِينَ. وهَذا الجَوابُ هو في الحَقِيقَةِ الأوَّلُ. لِأنَّ التَّغْيِيرَ داخِلٌ في المَعْلُومِ لا في العِلْمِ. (والثّالِثُ) مَعْناهُ لِيُعْلِمَ غَيْرَنا بِنا. فَنَسَبَ ذَلِكَ إلى نَفْسِهِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ [الزمر: ٤٢] (p-٢٩٧)وفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١] وقالَ تَعالى: ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣] وإنَّما عَلَّمَهُ بِمَلائِكَتِهِ. (والرّابِعُ) مَعْناهُ لِنُجازِيَ. وذَلِكَ مُتَعارَفٌ. نَحْوَ قَوْلِكَ: سَأعْلَمُ حُسْنَ بَلائِكَ. أيْ سَأجْزِيكَ عَلى حَسَبِ مُقْتَضى عِلْمِي قَبْلُ. فَعَبَّرَ عَنِ الجَزاءِ بِالعِلْمِ لِما كانَ هو سَبَبَهُ. (والخامِسُ) أنَّ عادَةَ الحَلِيمِ إذا أفادَ غَيْرَهُ عِلْمًا أنْ يَقُولَ: تَعالَ حَتّى نَعْلَمَ كَذا. وإنَّما يُرِيدُ إعْلامَ المُخاطَبِ. لَكِنْ يُحِلُّ نَفْسَهُ مَحَلَّ المُشارِكِ لِلْمُتَعَلِّمِ عَلى سَبِيلِ اللُّطْفِ. انْتَهى. والوَجْهُ الثّالِثُ هو الَّذِي اخْتارَهُ الإمامُ ابْنُ جَرِيرٍ قالَ: أمّا مَعْناهُ عِنْدَنا: وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلّا لِيَعْلَمَ رَسُولِي وحِزْبِي وأوْلِيائِي: مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. (قالَ) وكانَ مِن شَأْنِ العَرَبِ إضافَةُ ما فَعَلَتْهُ أتْباعُ الرَّئِيسِ، إلى الرَّئِيسِ، وما فُعِلَ بِهِمْ، إلَيْهِ. نَحْوَ قَوْلِهِمْ: فَتَحَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ سَوادَ العِراقِ وجَبى خَراجَها، وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ أصْحابُهُ، عَنْ سَبَبٍ كانَ مِنهُ في ذَلِكَ. وكالَّذِي رُوِيَ في نَظِيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««يَقُولُ اللَّهُ (p-٢٩٨)جَلَّ ثَناؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي. واسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي»» فَأضافَ، تَعالى ذِكْرُهُ، الِاسْتِقْراضَ والعِيادَةَ إلى نَفْسِهِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ، إذْ كانَ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِهِ. قَدْ حُكِيَ عَنِ العَرَبِ سَماعًا: أجُوعُ في غَيْرِ بَطْنِي، وأعْرى في غَيْرِ ظَهْرِي. بِمَعْنى جُوعِ أهْلِهِ وعِيالِهِ وعُرْيِ ظُهُورِهِمْ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "إلّا لِنَعْلَمَ" بِمَعْنى: يَعْلَمُ أوْلِيائِي وحِزْبِي اهـ. "وإنْ كانَتْ" أيِ التَّوْلِيَةُ إلَيْها أوِ الجَعْلَةُ أوِ التَّحْوِيلَةُ "لَكَبِيرَةً" أيْ ثَقِيلَةٌ شاقَّةٌ. لِأنَّ مُفارَقَةَ الإلْفِ، بَعْدَ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ إلَيْهِ، أمْرٌ شاقٌّ جِدًّا ﴿إلا عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ قُلُوبَهم، فَأيْقَنُوا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وأنَّ كُلَّ ما جاءَ بِهِ فَهو الحَقُّ الَّذِي لا مِرْيَةَ فِيهِ. وأنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ. فَلَهُ أنْ يُكَلِّفَ عِبادَهُ بِما شاءَ ويَنْسَخَ ما يَشاءُ. ولَهُ الحِكْمَةُ التّامَّةُ والحُجَّةُ البالِغَةُ في جَمِيعِ ذَلِكَ، بِخِلافِ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإنَّهُ كُلَّما حَدَثَ أمْرٌ، أحْدَثَ لَهم شَكًّا. كَما يَحْصُلُ، لِلَّذِينِ آمَنُوا، إيقانٌ وتَصْدِيقٌ. كَما قالَ تَعالى: ﴿وإذا ما أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤] ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهم كافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٥] وقالَ تَعالى: ﴿ونُنَـزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ هَذا تَطْمِينٌ لِمَن صَلّى إلى بَيْتِ المَقْدِسِ مِنَ المُسْلِمِينَ ومِن أهْلِ الكِتابِ قَبْلَ النَّسْخِ. (p-٢٩٩)وبَيانُ أنَّهم يُثابُونَ عَلى ذَلِكَ. وقَدْ رَوى البُخارِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي إسْحاقَ المُتَقَدِّمِ عَنِ البَراءِ: وكانَ الَّذِي ماتَ عَلى القِبْلَةِ، قَبْلَ أنْ تَحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ، رِجالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ ما نَقُولُ فِيهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ أيْ صَلاتَكم. وإنَّما عَدَلَ إلى لَفْظِ الإيمانِ، الَّذِي هو عامٌّ في الصَّلاةِ وغَيْرِها، لِيُفِيدَهم أنَّهُ لَمْ يَضِعْ شَيْءٌ مِمّا عَمِلُوهُ، ثُمَّ يَصِحُّ عَنْهم، فَيَنْدَرِجُ المَسْؤُولُ عَنْهُ انْدِراجًا أوَّلِيًّا، ويَكُونُ الحُكْمُ كُلِّيًّا. وذُكِرَ بِلَفْظِ الخِطابِ دُونَ الغائِبِ، لِيَتَناوَلَ الماضِينَ والباقِينَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ المُخاطَبِ عَلى الغائِبِ في اللَّفْظِ، وفي تَتِمَّةِ الآيَةِ إشارَةٌ إلى تَعْلِيلِ عَدَمِ الإضاعَةِ، بِما اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّأْفَةِ المُنافِيَةِ لِما هَجَسَ في نُفُوسِهِمْ مِنَ الإضاعَةِ. ولِما انْطَوى ضَمِيرُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى إرادَةِ التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ، لِأنَّها قِبْلَةُ أبِيهِ إبْراهِيمَ ومَفْخَرَةُ العَرَبِ ومَزارُهم ومَطافُهم، ولِمُخالَفَةِ اليَهُودِ - أجابَهُ الحَقُّ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب