الباحث القرآني

قوله ﴿قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ إلى قوله ﴿عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ معناه: قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا: "آمنا بالله"، أي: صدقنا به، وصدقنا بما أنزل إلينا وهو القرآن، وبما أنزل إلى إبراهيم وإلى إسماعيل وإلى إسحاق وإلى يعقوب وإلى الأسباط، وهم اثنا عشر ولداً ليعقوب أنبياء كلهم، ولد كل واحد منهم أمة من الناس فسموا الأسباط. والسبط في اللغة الشجرة. أي: هم في الكثرة مثل الشجر. قال ابن عباس: "كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح ولوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد ﷺ وعيسى صلى الله عليهم أجمعين". * * * ثم قال: ﴿وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ﴾. أي: وصدقنا بما أوتي موسى وعيسى، يعني: التوراة والإنجيل، وصدقنا بما أوتي النبيون من ربهم يعني: من [الكتب، كل ذلك حق] ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي: لا نفرق بين أحد من النبيين فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل وبما جاء به الكل. وقال ابن عباس ووهب بن منبه: "الأنبياء كلهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي كلهم من بني إسرائيل إلا عشرين نبياً. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم أجمعين. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم من بني يعقوب إلا عشرين رسولاً". وقال غير ابن عباس مثل قوله وزاد، فقال: "عدد الأنبياء صلوات الله عليهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، أولهم آدم وآخرهم محمد ﷺ وعليهم أجمعين. والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، ذكر الله منهم في القرآن ستة وعشرين وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون والأسباط واليسع وإلياس ويونس وأيوب وداود وسليمان وزكرياء وعزير ويحيى وعيسى ومحمد ﷺ وعليهم أجمعين. ومنهم خمسة لم تذكر أسماؤهم وذكروا بغير أسمائهم وهم: الذي مرّ على القرية قيل هو أرميا، وصاحب موسى وهو الخضر، وقيل إنه ليس بنبي، وثلاثة ذكرهم الله في سورة "يس" ولم يذكر أسماؤهم، فأما ذو القرنين، فأكثر الناس على أنه ليس بنبي. وكذلك اختلف في ذي الكفل. * * * ثم قال ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. أي: خاضعون بالطاعة لله. وروى ابن عباس أن النبي [عليه السلام] سأله نفر من اليهود: بمن تؤمن من الرسل؟ فقرأ عليهم الآية. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن بعيسى، فأنزل الله جل ذكره: ﴿قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ﴾ [المائدة: ٥٩] إلى ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩]. [ثم قال]: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ﴾. إي: إن صدقوا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب التي أنزلها الله كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الحق، يعني به اليهود والنصارى. ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾: أي: إن لم يؤمنوا بذلك وأعرضوا، ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾: أي: في مشاقة ومباعدة من الحق وفراق له ومحاربة له. وقيل: المعنى: قد صاروا في شق غير شق المسلمين. والمماثلة في الآية إنما وقعت بين التصديقين، أي: إن صدقوا بمثل تصديقكم وأقروا بمثل إقراركم. ولم يقع التمثيل بين المؤمن به وهو الله عز وجل وسبحانه وتعالى؛ هذا كفر لا يجوز. فإن قيل: وهل للإيمان مثل، هو غير الإيمان فتصح المماثلة به؟ فالجواب: أنه محمول على المعنى، والتقدير: فإن أتوا بتصديق مثل تصديقكم فقد اهتدوا: أي: صاروا مسلمين. وهذا من كلام العرب، يقول الرجل لمن يتلقاه: "بشر استقبل مثلي بهذا". وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]. وتقول: "ليس كربنا شيء"، "وليس كمثل ربنا شيء". والمعنى سواء. هذا قول أبي حاتم وغيره. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ﴾ . أي: فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء المخالفين لك من اليهود والنصارى إما بقتل وإما بجلاء عن جوارك. ﴿وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾: أي يسمع ما يقولون بألسنتهم ويعلم ما يبطنون لك ولأصحابك من البغضاء والحسد. فأنجز الله لرسوله وعده في اليهود وفي غيرهم وكفاه إياهم وسلَّطه عليهم وخذلهم، فقتل بعضاً، وأجلى بعضاً، وأذل بعضاً بالجزية. * * * ثم قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ﴾. "صبغة" منصوب على البدل من ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ فيكون المعنى: "بل صبغة الله"، وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالها جعلتهم في ماء لهم يزعمون أن ذلك تقديس" لهم بمنزلة الختانة لأهل الإسلام، ويقولون: إن ذلك صبغة لهم في النصرانية. فلما قالوا للمسلمين: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ﴾ قال الله لنبيه ﷺ: قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ وهي الحنيفية المسلمة، لا ما تغمسون فيه أبناءكم. وأجاز الكسائي نصبه على الإغراء والتقدير: الزموا تطهير الله بالإسلام لا ما تفعله اليهود والنصارى. وقيل: هو محمول على المعنى لأن معنى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ونحن متبعون صبغة الله. وقال قتادة: ﴿صِبْغَةَ ٱللَّهِ﴾: "دين الله". وكذا قال ابن عباس وغيره. قال قتادة: "إن اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً والأنبياء بعده صلوات الله عليهم". وقال مجاهد: "صبغة الله: فطرة الله؛ وهي فطرة الإسلام التي فطر الناس عليها". والفطرة ابتداء ما خلق عليه الخلق وهو الإسلام، ثم غيّروا دين أنبيائهم بدين آخر. وأصل الصبغ حدوث شيء فكأنهم أحدثوا ديناً غير ما خلقوا عليه. وقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾، أي: خاضعون في اتباع أمره وتصديق كتبه ورسله. * * * ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾، أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتخاصموننا في دين الله وهو معبودنا ومعبودكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مخلصون العبادة والطاعة، وأنتم قد عبدتم معه غيره، عبدت اليهود العجل، وعبدت النصارى المسيح. فكيف تخاصموننا وتزعمون أنكم أولى به منا وقد عبدتم غيره ونحن أخلصنا العبادة له. * * * ثم قال: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ نَصَارَىٰ﴾. أي: أتقول اليهود: إن هؤلاء الأنبياء كانوا هوداً؟ أو أتقول النصارى: إن هؤلاء الأنبياء كانوا نصارى؟ قل لهم يا محمد: أنتم أعلم أم الله؟ فإن الله قد أعلمنا أنهم على الملة الحنيفية المسلمة. ومن قرأ بالتاء، جعله خطاباً لهم. ومن قرأه بالياء أجراه على الإخبار عنهم. * * * ثم قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ﴾. أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله. أي: لا أحد أظلم منه. وقيل: عني بذلك كتمانهم نبوة محمد ﷺ وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. قاله قتادة وغيره. وقيل: إنما كتموا ما في كتبهم من اتباع ملة إبراهيم ﷺ ومن ذُكِرَ معه، وقد علموا أنهم كانوا حنفاء مسلمين فكتموا ذلك. وادّعت اليهود أنهم كانوا يهوداً، وادّعت النصارى أنهم كانوا نصارى، وهم مع ذلك قد علموا أن اليهودية والنصرانية إنما حدثت بعد موت [هؤلاء] الأنبياء صلى الله عليهم وسلم. والهاء في ﴿عِندَهُ﴾ تعود على الظالم ودل عليه ﴿أَظْلَمُ﴾. والأسباط من ولد يعقوب كالقبائل من ولد إسماعيل ﷺ وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ولداً ليعقوب عليه السلام. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. أي: ليس الله بغافل عن فعلكم وكتمانكم ما قد علمتموه، بل يحصيه عليكم ويجازيكم به. * * * ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾. أي: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء صلوات الله عليهم أمة قد مضت بعملها. لها ما عملت، ولكم ما عملتم. ﴿وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: أي: لا يسأل أحد عن ذنب أحد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب