الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿طه * مَآ أَنَزَلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ﴾. قد قدمت علة الإمالة في هذه الحروف في أول "مريم". وأتى أول هذه السورة على غير ترتيب أوائل السور، لأن جميع أوائل السور يحتمل أن يكون ما بعدها خبراً لها، ولا يجوز أن يكون ما بعد "طه" خبراً لها، لأنه نفي، فلذلك تأولوه بمعنى "يا رجل" و "يا إنسان". وقيل: هو أمر من وطيء. وروي عن بعضهم أنه قرأ "طه" بإسكان الهاء. وهي قراءة مروية عن الحسن وعكرمة، وفيها تقديران أحدهما أنه أراد الأمر من وطيء. أي: طأ الأرض. ولكن أبدل من الهمزة هاء، كما قالوا: إياك وهياك. وقيل: إنه أبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذف الألف لدلالة الفتح عليها، وأتى بهاء للسكت. وقيل: الهاء هاء الكناية عن المكان. أي: طأ يا محمد المكان الذي تصلي فيه برجليك، ولا تقف على رجل واحدة فتتعب. ودل على هذا المعنى قوله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ فأسكنت هاء الكناية على نية الوقف، أو على التشبيه بهاء السكت. وقد قيل: إن الهاء في قراءة الجماعة تعود على الأرض، أي: طأ الأرض يا محمد برجليك في صلاتك، والألف في طأ بدل من همزة ساكنة. ومن قرأ "طه" بحذف الألف، وإسكان الهاء فهو أمر بالوطء لكنه أبدل من الهمزة ألفاً قبل الأمر، ثم حذف الألف للأمر، والهاء تعود على المكان على ما ذكرنا، أو هي هاء سكت كما ذكرنا، أو هي بدل من همزة ساكنة على ما قدمنا، فهذه ثلاثة أقوال في الهاء في قراءة من قرأ "طه" بحذف الألف، وإسكان الهاء، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: "لي عند ربي جلّ وعزّ عشرة أسماء""فذكر أن منها "طه" و "يس" إسمان له. قال ابن عباس: "طه" بالنبطية: يا رجل. وهو قول الضحاك. وقال أبو صالح: هي بالنبطية أيطأ. وقال ابن جبير: هي بالنبطية أيطه: أي يا رجل. وقال ابن جبير: طه بالسريانية: يا رجل. وهو قول قتادة. وقال عكرمة: "طه" بالنبطية: يا إنسان. وعن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم [الله به]. وهذه الآية نزلت فيما كان النبي ﷺ يصنعه من السهر والتعب والقيام بالليل. قال الضحاك: كانوا يقومون حتى تتشقق، أقدامهم، فقال المشركون: ما نزل هذا القرآن إلا للشقاء، فأنزل الله تعالى ذكره: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾. أي: ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى. وقيل: كان النبي ﷺ يتعب في صلاته، ويقف على رجل واحدة، فأنزل الله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾. قال مجاهد: هذا في الصلاة. قال: هي مثل قوله تعالى: ﴿فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: ٢٠]. قال قتادة: "أنزل الله كتابه، وبعث رسوله رحمة، رحم بها الله العباد، ليتذكروا، وينتفع رجل بما سمع منه. ونصب تذكرة على البدل من "لتشقى". وقيل: هي مفعول من أجله. وقيل" نصبها على المصدر. وقال الكوفيون: هي تكرير. وقيل: من حروف الهجاء. وقيل: هي حروف مقطعة، يدل كل حرف منها على معنى، وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الطبري: "طه": يا رجل، لغة معروفة في عك. قال الشاعر: ؎ هَتَفْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ∗∗∗ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوائِلاَ وقال آخر: ؎ إنَّ السَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقِكُمْ ∗∗∗ لا بارَكَ اللهُ في الْقَوْمِ الملاَعِينِ والتقدير على هذا: يا رجل، ما أنزلن عليك القرآن لتشقى بإنزاله عليك. ولا يوقف على "طه" على هذا القول، لأن النداء تنبيه على ما بعده. ومن جعلها افتتاحاً وقف عليها، وهو مذهب أبي حاتم. ثم ابتدأ فخاطب النبي ﷺ بقوله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ وكذلك لا يقف عليها على قول من جعلها قسماً، لأن القسم يحتاج إلى جواب، وجوابه: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا﴾. وأجاز أبو حاتم الوقف على "طا" ويبتدئ ها. وليس عليه عمل عند أهل النقل من المقرئين. وقيل: تقدير الكلام: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، لا لتشقى. * * * ثم قال تعالى: ﴿تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى﴾. أي: نزلناه تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسماوات العلى. "والعلى" جمع "علياً": كالفضلى. والفضل. * * * ثم قال: ﴿ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ﴾. أي: على عرشه، ارتفع وعلا. قال أبو عبيدة: استوى: علا. وقال القتبي: استقر. وقيل: معناه: استولى. وأحسن الأقوال في هذه "علا" والذي يعتقده أهل السنة، ويقولونه في هذا: إن الله جلّ ذكره، سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل مكان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السماوات والأرض كما قال جل ذكره. وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله. وقد سأل رجل مالكاً عن هذا، فقال له: كيف استوى؟ فاحمرت وجنتا مالك، وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن يكون ضالاً. أخرجوه، فأخرج، فناداه الرجل، يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله غيره، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل العراق، إلى أن وردت عليك، فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له. وروي أن خباب بن الأرت قرأ "طه" على عمر بن الخطاب إلى قوله: "فتردى" فأسلم عمر عند ذلك. و "العلى" تمام إن رفعت "الرحمن على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ، فإن جهلته بدلاً من الضمير في "خلق" لم تقف عليه. و "استوى" تمام إن جعلت "الرحمن" بدلاً من الضمير في "خلق" أو على إضمار مبتدأ، فإن جعلت "له ما في السماوات" في موضع خبر الرحمن، لم تقف على استوى. * * * ثم قال: ﴿لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾. أي: هو يملك ذلك كله ويدبره . * * * وقوله: ﴿وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ﴾: الثرى: التراب المبتل الندي يعني: وما تحت الأرضين السبع. وقال محمد بن كعب: الثرى: سبع أرضين. وقال ابن عباس: الأرض على نون، ونون على البحر، والبحر على صخرة وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قوله: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ﴾ [لقمان: ١٦] والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضين سبعة بين كل أرضين بحر، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم، ولولا عظم ذلك البحر، وكثرة مائة وبرده، لأحرقت جهنم كل شيء فوقها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من ظلمة لا يعلم غلظه إلا الله، وذلك الحجاب على الثرى، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق، لا يعلم ما تحت الثرى إلا الله. وقال الضحاك: الأرض السابعة على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله. وسئل كعب ما تحت الأرض؟ قال ماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: ماء، حتى بلغ سبع أرضين. قيل: له: فما تحت الأرض السابعة. قال: ماء. قيل فما تحت الماء. قال صخرة، قيل فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو قائم على وسط حوت معلق طرفاه بالعرش. قيل له: فما تحت الحوت قال: هواء وظلمات وانقطع العلم. وروى ابن وهب عن رجاله أن كعب الأحبار قال: إن إبليس يقلقل للحوت الذي على ظهره الأرض كلها. قال: فألقى في قلبه. فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوبيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال، لو هضتهم فألقيتهم عن ظهرك كلهم. قال: فهم لوبيا بفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابة، فدخلت في منخره حتى دخلت في دماغه فعج إلى الله منها، فخرجت. قال: وكان كعب يقول: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها، بين يديه وتنظر إليه، إن همَّ بشيء من ذلك عادت حيث كانت. وروى عاصم عن زر عن ابن مسعود أنه قال: ما بين سماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمس مائة عام، وما بين سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسة مائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء مسيرة خمس مائة عام، والعرش فوق ذلك، والله جل ذكره فوق العرش. وعن ابن عباس: أيضاً أنه قال: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام، وذكر أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق إلى المغرب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب