الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾. إلى قوله: ﴿فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ﴾. أي: ثم إنكم يا بني آدم بعد إنشاء الله لكم خلقاً آخر تموتون تصيرون رفاتاً، ثم إنكم بعد موتكم وتصييركم رفاتاً تبعثون فتحيون للحساب والجزاء في القيامة. * * * ثم قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾. يعني: سماوات بعضها فوق بعض. والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. فلذلك قيل للسماوات طرائق، إذ بعضها فوق بعض. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾. أي: لم نغفل عن خلق السماوات أن تسقط عليكم، بل كنا حافظين لهن. وهذا بمنزلة قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢] أي: محفوظاً أن يسقط عليكم. وقيل: محفوظاً من الشياطين. وقيل: المعنى، إنا لحفظنا إياكم خلقنا السماوات هذا الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: ليس يغفل عن أعمال الخلق، وأحصى أفعالهم مع كون سبع طرائق فوقهم. * * * ثم قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ﴾، يعني: مياه الأرض كلها أصلها من السماء، أسكنه الله الأرض لينتفع به خلقه. قال ابن جريج: "ماء الأرض هو ماء السماء". فماء الآبار والأدوية والعيون، هو من ماء السماء أصله، أسكنه الله الأرض. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ﴾. أي: وإنا لقادرون على أن نذهب بالماء الذي أسكناه الأرض فتهلكوا بالعطش وتهلك مواشيكم وهذا مثل قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠]. فمن نعمة الله على خلقه أن أسكن لهم الماء في الأرض مخزوناً يشربونه ويسقون مواشيهم ويسقون زرعهم وأَجْنُنَهم، ويتطهرون به وغير ذلك من منافعهم به. وروى ابن عباس أن النبي ﷺ قال: "أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها معايش للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله تعالى ذكره: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ﴾ وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله عز وجل جبريل ﷺ، فرفع من الأرض القرآن والعلم وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ﴾ ثم قال تعالى ذكره: ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾. أي: فأحدثنا لكم بالماء بساتين من نخيل وأعناب ﴿لَّكُمْ فِيهَا﴾ أي: من الجنات فواكه كثيرة، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾. أي: ومن الفواكه تأكلون. وقيل المعنى: ومن الجنات تأكلون. وقيل المعنى: من النخيل والأعناب تأكلون. وخص ذكر النخيل والأعناب دون سائر الثمار، لأن القوم الذين نزل عليهم القرآن كان عامة فاكهة بلدهم النخيل والأعناب، فخوطبوا بما عندهم من الثمار ليذكروا أنعم الله عليهم، فكان النخيل لأهل الحجاز والمدينة، وكانت الأعناب لأهل الطائف. * * * ثم قال: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ﴾. أي: وأنشأنا لكم ذلك، يعني شجرة الزيتون تخرج من جبل فلسطين. "وطور سيناء" الجبل الحسن. فالمعنى وأنشأنا لكم شجرة خارجة من هذا الجبل. ومن كسر السين من "سيناء" جعله فعلالاً وليس بفعلاء إذ ليس في الكلام هذا المثال فيه همزة التأنيث، ولم يصرف لأنه اسم للبقعة، ولأنه معرفة. وقال الأخفش: هو اسم أعجمي. فأما من فتح السين، فإنه فعلاء، كحمراء، فلم ينصرف للتأنيث وهما لغتان. وقال أبو عمرو: الفتح لغة بني تميم. وقال الفراء: لم يكسر السين إلا بنو كنانة. وقال مجاهد: معنى سيناء: المبارك. وقال ابن عباس: هو جبل بالشام مبارك. وقال قتادة: معنى "سيناء" و "سينين"، حسن. وقال ابن عباس أيضاً: سيناء، الجبل الذي نودي منه موسى. وقال ابن زيد: هو الطور الذي بالشام جبل ببيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة. وقيل: هو جبل ذو شجر. والمعنى فيه: أن سيناء اسم معرفة، أضيف إليه الطور فعرف به كما قيل: جبلا طيء، وهو معنى قول ابن عباس: أن سيناء الجبل الذي نودي منه موسى، وهو مع ذلك مبارك. ويلزم من قال معناه جبل مبارك أو جبل حسن أن ينون طوراً ويجعل سيناء له نعتاً. * * * وقوله: ﴿تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ﴾ مذهب أبي عبيدة أن الباء زائدة والتقدير، تنبت الدهن. ومذهب الفراء وأبي إسحاق أن الباء متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، فالمصدر في كل الأفعال يحسن دخول الحرف معه على المفعول، وإن كان لا يحسن مع الفعل. ألا ترى أنك تقول: هو ضارب لزيد، فتدخل اللام. وتقول: أعجبني أكل للخبز زيد، ولو قلت: هو ضارب لزيد لم يجز، لأن اسم الفاعل أضعف في العمل من الفعل. فكذلك المصدر، هو أضعف في العمل من الفعل. فجاز دخول حرف الجر معه، وإن كان لا يدخل مع الفعل لقوة الفعل في التعدي. وتنبُتُ وتنبِتُ لغتان بمعنى كما يقال: مطرت السماء، وأمطرت وسرى وأسرى بمعنى والتقدير في العربية تنبت وفيها دهن أو معها دهن. * * * وقوله: ﴿وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ﴾ يعني الزيتون. قال ابن عباس: يصطبغ بالزيت الذي يأكلونه. يعني يأتدمون به . * * * ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا﴾. أي: وإن لكم أيها الناس في الإبل والبقر والغنم والمعز لعبرة تعتبرون بها فتعرفون نعم الله عندكم، وأنه لا يعجزه شيء أراده فهو يسقيكم من اللبن الخارج من بين الفرث والدم، ولكم فيها أيضاً مع ذلك منافع كثيرة، كالإبل يحمل عليها، وكالبقر يحرث بها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾. أي: من لحومها تأكلون. ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ أي: وعلى الإبل والسفن يحملون براً وبحراً. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ﴾. أي: أرسل نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله وإلى طاعته. فقال لهم: ﴿يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ﴾ أي: ذلوا له بالطاعة لا معبود لكم غيره ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي: تخشون بعبادتكم سواه العقوبة أن تحل بكم. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾. أي: فقال جماعة أشراف قومه الذين جحدوا توحيد الله وكذبوه لقومهم: يا قوم، ما هذا إلا بشر مثلكم. أي: ما نوح إلا ابن آدم ﴿مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يريد أن يكون له الفضل عليكم، فيكون متبوعاً وأنتم له تبع. * * * ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾. أي: لو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل إلينا ملائكة تدعونا إلى ذلك. ﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ﴾ أي: قالوا لهم: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه نوح من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهم آباؤهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب