الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿طسۤمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ﴾، إلى قوله: ﴿كَانُواْ خَاطِئِينَ﴾. قد تقدم تفسير "طسم"، والمعنى هذه آيات الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد المبين: أنه من عند الله، لم تتقوله ولا تخرصته، وفي هذا إشارة إلى أن الله قد أعلم من قبل محمد من النبيين أنه سينزل على نبي كتاباً مبيناً، فذلك معنى الإشارة في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾، أي هذه الآيات التي وعد الله أن ينزلها وكذلك ما شابهه مثله. وقال قتادة: المعنى: المبين بركته ورشده وهداه. وقيل: المعنى: المبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد عليه السلام. يقال: أبان الشيء وبان. * * * ثم قال تعالى: ﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ﴾. أي نقرأ عليك يا محمد رسولنا، ونقص عليك من خبر موسى وفرعون ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي لقوم يصدقون بهذا الكتاب، فيزدادون عند سماع ما لم يكونوا يعلمون تصديقاً وإيماناًَ ويعلمون أن من عاداك مصيره كمصير من عادى موسى. * * * ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ﴾، أي تجبر وتكبر، لم يرد علو مكان، وعلى ذلك ما وصف الله بالعلو، ليس هو علو مكان ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾، أي فرقاً يذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة. ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾، أي ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره بغير حق. قال السدي: رأى فرعون في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه، يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه ذهاب مملكتك، وكان بنو إسرائيل لا يولد لهم غلام إلا ذبحه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة، فجعل بنو إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم، فذلك قوله: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ وواحد الشيع: شيعة، وهي الفرقة التي يشيع بعضها بعضاً أي يعاونه. قال أبو إسحاق: إنما فعل ذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولوداً يولد مع ذلك الحين يكون سبب زوال ملكه. فالعجب من حمق فرعون إن كان الكاهن عنده صادقاً فما يغني القتل، وإن كان كاذباً فما يصنع بالقتل. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ﴾، يعني بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون، فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً، بالسبط الذي كان منهم موسى الذي كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم. وهم سبط النبوة، وكان فرعون جعل على نساء ذلك السبط حفظة من النساء، فإذا حملت المرأة دونها عنده في الدواوين فإن وضعت ذكراً ذبحه، وإن وضعت أنثى تركها، وكان الكهان يأتون فرعون كل يوم فيخبرونه بما يرون في كهانتهم. * * * قوله: ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي ولاة وملوكاً. ﴿وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ﴾، قال قتادة: يرثون الأرض من بعد فرعون وقومه. ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ﴾، أي نوطئ لهم في أرض الشام ومصر. ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾، أي نريهم زوال ملكهم على يد الرجل الذي قد حذروا أمره، وقتلوا الولدان من جهته، وهو موسى ﷺ. وذكر ابن وهب عن رجاله: أن فرعون ولي بني إسرائيل أربعمائة عام وأربعين عاماً، فأضعف الله ذلك لبني إسرائيل، فولاهم على آل فرعون بعده ثمانمائة عام وثمانين عاما. قال: وإن كان الرجل ليعمر ألف سنة في القرون الأولى، وما يحتلم حتى يبلغ عشرين ومائة سنة. وروى ابن زيد عن أبيه، قال: كان في الزمان الأول يمر بالرجل أربعمائة سنة قبل أن يرى فيها جنازة. فقوله: ﴿أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ﴾ إلى قوله: ﴿ٱلْوَارِثِينَ﴾ هو قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾، فهذا هو الذي كان فرعون يحذر، كان يحذر أن يمن الله على الذين استضعفوا في الأرض عند فرعون، وأن يجعلهم أئمة، وأن يجعلهم الوارثين لأرض فرعون وملكه. ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، أي وقذفنا في قلب أم موسى، إذ ولدته أن ترضعه، وقيل: هي رؤيا رأتها. قال السدي: أمر فرعون أن يذبح الأولاد من بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة فعلت بموسى في السنة التي يذبحون فيها الأولاد، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه فأوحى الله إليها أن أرضعيه. الآية. قال ابن جريج: أمرت أن ترضعه ما أمنت عليه، فإذا خافت عليه ألقته في البحر. فلما بلغ أربعة أشهر وصاح، وابتغى من الرضاع أكثره، ألقته حينئذ في اليم إذ خافت عليه. وقال السدي: وضعته وأرضعته ثم دعت له نجاراً فعمل له تابوتاً، وجعلت مفتاح التابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل. * * * ثم قال: ﴿وَلاَ تَخَافِي﴾، أي لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه ﴿وَلاَ تَحْزَنِيۤ﴾ لفراقه. قال ابن زيد: لا تخافي البحر عليه، ولا تحزني لفراقه. ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾، للرضاع فترضعيه أنت ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ أي باعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾، يعني التقطه من النيل جواري امرأة فرعون آسية. خرجن يغتسلن فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية، فوقعت عليه رحمتها وحنينها، فلما أخبرت به فرعون، أراد أن يذبحه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها. وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل ، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، ولذلك قال تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾. وقال محمد بن قيس: كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته ابنة فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما نظرت إلى وجهه برأت من البرص، فجاءت إلى أمها، وقالت: إن هذا الصبي مبارك، لما نظرت إليه برأت. فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل، هلم حتى أقتله فقالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: ٩]. وقال ابن إسحاق: وأجمع فرعون في مجلس له على شفير النيل، كان يجلسه على كل غداة فبينما هو جالس إذ مر النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا الشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه، حتى جاءوا به، ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه. قالت امرأته آسية: ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ [القصص: ٩]. وحكى الكسائي: في تصغير آل: أويل والأكثر على رده إلى الأصل، فيقولون: أهيل وإذا أضيف إلى اسم صحيح ليس بموضوع لمعرفة ردوه إلى الأصل. فقالوا: هم أهل الرجل، وأهل المرأة. وكذلك إن أضافوا إلى مضمر أو إلى بلد. قالوا: هم أهلك، وأهل الكوفة، وقوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾. اللام لام كي، والمعنى أنه لما كان في علم الله أن يكون لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم إنما التقطوه لكي يصير لهم عدواً وحزناً، فصاروا كأنهم التقطوه لذلك، وإن لم يقصدوا ذلك إنما آل أمرهم إلى أن كان لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم التقطوه لذلك، ومثله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٠]. لم يعرف إبليس أنهما إذا أكلا بدت لهما سوآتهما، ولا قصد لذلك إنما قصد ليوقعهما في الخطيئة، فبدت لهما سوآتهما عند مواقعة الخطيئة فصار كأنه فعل ذلك ليبدي لهما سوآتهما وإن لم يكن قصده لذلك. وهي لام العاقبة ولام الصيرورة وهذا كما قال: "فللموت ما تلد الوالدة" لم تلد المولود ليموت ولا للموت، ولكن كانت العاقبة إلى الموت، تكون صارت كأنها ولدته لذلك والحُزن والحَزن لغتان، كالسُقم والسَقم. وقيل: الحَزَن: الاسم، والحُزن المصدر. وقوله تعالى: ﴿كَانُواْ خَاطِئِينَ﴾، أي آثمين بفعلهم، يقال خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب. ويروى: أن فرعون كان له رجال مخضبة أيديهم بالحناء قد شدوا أوساطهم بالمناطق وفيها السكاكين يذبحون الأطفال، فولدت أم موسى موسى، ولا علم عندهم به، فأوحى الله إليها أن ترضعه، فإن خافت عليه ألقته في اليم يعني النيل، فخافت عليه، فجعلته في تابوت وغلقت عليه، وعلقت المفاتيح في التابوت، وألقته في النيل، وكان لامرأة فرعون جوار يسقين لها الماء من موضع من النيل لا تشرب من غيره، فلما أتى الجواري يستقين وجدن التابوت، فأردن فتحه، ثم قال بعضهم البعض: إن فتحناه قبل أن تراه سيدتنا اتهمنا. وقالت: وجدتن فيه شيئاً غير هذا، ولكن دعنه على حاله حتى تكون هي التي تفتحه وهو أحصى لكن عندها، فذهبن بالتابوت إليها، ففتحت التابوت فإذا موسى، فكان من قصته ما ذكره الله لنا، وقد تقدم من قصته في مريم نحو هذا أو أشبع منه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب