الباحث القرآني

قوله تعالى ذكره: ﴿هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله ﴿وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً﴾. هنالك ظرف زمان، والعامل فيه "ابتلي". والتقدير: وقت ذلك اختبر المؤمنون فعرف المؤمن من المنافق، والابتداء به حسن على هذا. وقيل: إن العامل فيه "﴿وَتَظُنُّونَ﴾" أي: وتظنون بالله الظنون الكاذبة هنالك ، والابتداء به على هذا التقدير. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ أي: حركوا وأزعجوا بالفتنة إزعاجاً شديداً. * * * ثم قال: ﴿وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي: شك في الإيمان وضعف في الاعتقاد. * * * ﴿مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾. يروى أن قائل ذلك معتب بن قشير، قاله يزيد بن رومان، وقد تقدم ذكر هذا. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ أي: قال طائفة من المنافقين: يا أهل يثرب لا تقيموا مع النبي وارجعوا إلى منازلكم، ويثرب اسم أرض ومدينة النبي ﷺ في ناحية من يثرب. * * * ثم قال: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ﴾ أي: يستأذن طائفة من المنافقين النبي في الانصراف إلى منزلهم اعتلالاً بالخوف على منزله من السرق، وليس به إلا الفرار والهرب. قال ابن عباس: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا مخلاة نخاف عليها السرق. قال قتادة: يقولون بيوتنا مما يلي العدو وإنا نخاف عليها السرق. ففضحهم الله، وقال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾ أي: ما يريدون إلا الهرب. يقال: أعور المنزل إذا ضاع ولم يكن له ما يستره أو سقط جداره. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو رجاء "عَوِرَةٌ" بكسر الواو، فمعنى عورة: ضائعة. وقيل: معنى قراءة الإسكان: إن بيوتنا ذات عورة، يقال للمرأة: عورة، فالمعنى ذات نساء نخاف عليهن العدو. ويجوز أن تكون عورة مسكنة من "عَوِرَة". ويجوز أن تكون مصدراً. ويجوز أن تكون اسم فاعل على السعة، كما يقال: رجل عَدْلٌ أي عَادِلٌ. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا﴾. [أي: لو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين: إن بيوتنا عورة من جوانبها قاله قتادة. ﴿ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا﴾] أي: لو سئلوا الشرك لأعطوه من أنفسهم طائعين، ومن قطر لأتوه، فمعناه: لجاؤوا الكفر طوعاً. وقيل: المعنى: ولو دخلت عليهم البيوت من نواحيها ثم سئلوا الشرك لقبلوه وأتوه طائعين. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ﴾ أي بالمدينة. قاله القتبي. وقيل: المعنى: وما تلبثوا بالفتنة. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ﴾ أي: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله في الانصراف عنه عاهدوا الله من قبل لا يولون عدوهم الأدبار فما أوفوا بعهدهم. ﴿وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً﴾ أي: يسأل الله ذلك من أعطاه إياه من نفسه. وذكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة، وهو قوله جل ذكره: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ [آل عمران: ١٢٢]، ثم عاهدوا الله لا يولون العدو الأدبار ولا يعودون لمثلها فذكر الله لهم ما قد أعطوا من أنفسهم ولم يفوا به. قال قتادة: كان ناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضل فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، فساق الله إليهم ذلك حتى كان ناحية المدينة. * * * ثم قال تعالى: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ﴾ أي: قل لهم يا محمد لا ينفعكم هروبكم إن هربتم من الموت أو القتل لأن ذلك إن كان كتب عليكم فلا ينفعكم فراركم شيئاً، لا بد لكم مما كتب عليكم. ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: لا يزيد لكم فراركم في أعماركم شيئاً بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، لا تجاوزوه، هو قليل لأن الدنيا كلها متاع قليل، فما بقي من أعماركم أقل من القليل. * * * ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ﴾ أي: يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً في أنفسكم أو عاقبة وسلامة، فليس الأمر إلا ما قدر الله. * * * ثم قال: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي: لا يجدون لأنفسهم من يليهم بالكفالة مما قدر الله عليهم من سوء، ولا نصيراً ينصرهم مما أراد بهم. * * * ثم قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ﴾ أي: قد يعلم الله الذين يعوقون الناس فيصدونهم عن رسول الله في حضور الحرب. وهو مُشتق من عاقني عن كذا، أي: صرفني عنه ومنعني، وعوق على التكثير لعاق فهو مُعَوِّقٌ. * * * ثم قال: ﴿وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ أي تعالوا إلينا ودعوا محمداً فإنا نخاف عليكم الهلاك. ﴿وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: الحرب والقتال، لا يشهدون ذلك إلا تعذيراً، ودفعاً للمسلمين عن أنفسهم ورياءً، وهذا كله في المنافقين. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أُكْلَةُ رأسٍ ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقال ابن زيد: نزلت في أخوين أحدهما مؤمن والآخر منافق، جرى بينهما كلام في أمر رسول الله ﷺ، فقال المنافق للمؤمن: هلمَّ إلى الطعام فقد نعق بك وبصاحبك والذي يحلف به، لاستقبلها محمد أبداً، فقال له المؤمن: كذبت والذي يحلف به، ثم أخبر النبي ﷺ بذلك، فنزلت: ﴿وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾. * * * ثم قال تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾. قال الفراء: هو منصوب على الذم، وأجاز نصبه على الحال، وقدره: يعوقون أشحة. وقيل: هو حال، والتقدير: والقائلين لإخوانهم أشحة. وقيل: التقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً، يأتونه أشحة، أي أشحة على الفقراء بالغنيمة جبناء. وقال الطبري: التقدير هلمَّ إلينا أشحة. وقال السدي بنصبه على الحال، والتقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً بخلاً عليهم بالظفر والغنيمة. ومن جعل العامل في أشحة "المُعَوِّقِينَ" أو "القائلين" فقد غلط لأنه تفريق بين الصلة والموصول. قال قتادة: معنا أشحة عليكم في الغنيمة. وقال مجاهد: أشحة عليكم في الخير. وقيل: التقدير: أشحة عليكم بالنفقة على الضعفاء منكم. والتأويل: جبناء عند الناس أشحاء عند قسم الغنيمة. وقال يزيد بن رومان: أشحة عليكم للضغن الذي في أنفسهم. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ أي: فإذا جاء يا محمد القتال وخافوا (الهلاك) رأيتهم ينظرون إليك لواذاً عن القتال تدور أعينهم خوفاً من القتال. ﴿كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ﴾ أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي يُغشى عليه من الموت النازل به. * * * ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ أي: فإذا زال القتال عفوكم بألسنة ذربة. يقال للرجل الخطيب: مِسْلَقٌ وَمِسْلاقَ وَسَلاقٌ بالسين والصاد فيهن، أي: بليغ. والمعنى: أنهم عند قسم الغنيمة يتطاولون بألسنتهم لشحهم على ما يأخذ المسلمون، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا شهدنا معكم، وهم عند البأس أجبن قوم، هذا معنى قول قتادة. ويدل على صحة هذا التأويل قوله بعد ذلك: ﴿أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ﴾ أي: على الغنيمة إذا ظفر المسلمون. وقيل: بل ذلك أذى المنافقين للمسلمين بألسنتهم عند الأمان. قاله ابن عباس ويزيد بن رومان. ثم قال تعالى ذكره: ﴿أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: هؤلاء المنافقون الذين تقدمت صفتهم لم يصدقوا بالله ورسوله بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم، أي: أذهبها وأبطلها. ويروى أن الذي وُصِفَ بها كان بدرياً فأحبط الله عمله، قاله ابن زيد. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً﴾ أي: وكان إحباط أعمالهم على الله هيناً حقيراً. وتقف على "﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾" إذا نصبت "أشحة" على الذم، ولا تقف عليه على غير هذا التقدير. قال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ﴾ أي: يحسب هؤلاء المنافقون من جبنهم وخوفهم أن الأحزاب لم ينصرفوا وأنهم باقون قريباً منهم. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ﴾ أي: وإن يأتكم الأحزاب لحربكم ودّ هؤلاء المنافقون لو أنهم في البادية غيب عنكم يسألون عن أخباركم من بعيد جبناً منهم وهلعاً من القتل، يقولون: هل هلك محمد وأصحابه؟ يتمنون أن يسمعوا هلاكهم. وقرأ طلحة: "لَو أَنَّهُم بُدًّى" فِي الأَعْرَابِ مثل: غُزىًّ. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: لو كانوا معكم لم يقاتلوا معكم إلا تعذيراً لكم لأنهم لا يحتسبون في ذلك ثواباً ولا جزاءً. * * * ثم قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ هذا عتاب من الله للمستخفين عن رسول الله ﷺ بالمدينة من المؤمنين، أي: كان لكم أن تتأسوا به، وتكونوا معه حيث كان ولا تتخلفوا عنه. * * * ثم قال: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ﴾ أي: ثواب الله في الآخرة. ﴿وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ﴾ أي: ويرجو عاقبة اليوم الآخر. ﴿وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً﴾ أي: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب