قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾ [[.
(مهادا) بالجمع: قراءة (نافع) وعليها الأصل.]] "الَّذِي" في موضع [رفع [[من ب وج وز وي وك وى.]]] نعت ل"- رَبِّي "أَيْ لَا يَضِلُّ رَبِّي الَّذِي جَعَلَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ أَيْ هُوَ" الَّذِي". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: "مَهْدًا" هُنَا وَفِي "الزُّخْرُفِ" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. الْبَاقُونَ "مِهاداً" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً﴾[[راجع ج ١٩ ص ١٦٩ فما بعد.]] [النبأ: ٦]. النَّحَّاسُ: وَالْجَمْعُ أَوْلَى لِأَنَّ "مَهْدًا" مَصْدَرٌ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ مَصْدَرٍ إِلَّا عَلَى حَذْفٍ، أَيْ ذَاتَ مَهْدٍ. الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ "مَهْدًا" جَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْفَرْشِ أَيْ مَهَدَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ ذَاتَ مَهْدٍ. وَمَنْ قَرَأَ: "مِهَادًا" جَازَ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَالْفِرَاشِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ "مَهْدٍ" اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فَكُسِّرَ. وَمَعْنَى "مِهاداً" أَيْ فِرَاشًا وَقَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا.
(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) [٢٠: ٥٣] أَيْ طُرُقًا. نَظِيرُهُ ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سبلا فجاجا﴾[[راجع ج ١٨ ص ٣٠٦.]] [نوح: ٢٠ - ١٩]. وقال تَعَالَى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٠﴾[[راجع ج ١٦ ص ٦٤.]] [الزخرف: ١٠] (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم معناه. وَهَذَا آخِرُ كَلَامِ مُوسَى، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَأَخْرَجْنا بِهِ". وَقِيلَ: كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ موسى. والمعنى (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أَيْ بِالْحَرْثِ وَالْمُعَالَجَةِ، لِأَنَّ الْمَاءَ المنزل سبب خروج النبات. ومعنى (أَزْواجاً) ضُرُوبًا وَأَشْبَاهًا، أَيْ أَصْنَافًا مِنَ النَّبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَلْوَانِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنْ نَبَاتٍ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ النَّبَاتُ شَتَّى، فَ "شَتَّى" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِأَزْوَاجٍ، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و "شَتَّى" مَأْخُوذٌ مِنْ شَتَّ الشَّيْءُ أَيْ تَفَرَّقَ. يُقَالُ: أَمْرٌ شَتٌّ أَيْ مُتَفَرِّقٌ. وَشَتَّ الْأَمْرُ شَتًّا وشتاتا تفرق، واشتت مِثْلُهُ. وَكَذَلِكَ التَّشَتُّتُ. وَشَتَّتَهُ تَشْتِيتًا فَرَّقَهُ. وَأَشَتَّ بِي قَوْمِي أَيْ فَرَّقُوا أَمْرِي. وَالشَّتِيتُ الْمُتَفَرِّقُ. قَالَ رُؤْبَةُ يَصِفُ إِبِلًا:
جَاءَتْ مَعًا وَاطَّرَقَتْ شَتِيتَا ... وَهْيَ تُثِيرُ السَّاطِعَ السِّخْتِيتَا [[السختيت: دقاق التراب: وهو الغبار الشديد الارتفاع. ويروى: (الشختيتا بالشين المعجمة.]]
وَثَغْرٌ شَتِيتٌ أَيْ مُفَلَّجٌ. وَقَوْمٌ شَتَّى، وَأَشْيَاءُ شَتَّى، وَتَقُولُ: جَاءُوا أَشْتَاتًا، أَيْ مُتَفَرِّقِينَ، وَاحِدُهُمْ شَتٌّ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ﴾ [٢٠: ٥٤] أَمْرُ إِبَاحَةٍ." وَارْعَوْا [٢٠: ٥٤]" مِنْ رَعَتِ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ، وَرَعَاهَا صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، لازم ومعتد.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أَيِ الْعُقُولِ. الْوَاحِدَةُ نُهْيَةٌ. قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّفْسَ عَنِ الْقَبَائِحِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُوسَى احْتِجَاجٌ عَلَى فِرْعَوْنَ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ:" فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [٢٠: ٤٩]". وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْيَوْمَ بِأَفْعَالِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ﴾ [٢٠: ٥٥] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: كُلُّ نُطْفَةٍ مَخْلُوقَةٍ مِنَ التُّرَابِ، عَلَى هَذَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ) أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي بَابِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَوْنٍ لَمْ نَكْتُبْهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَعْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ (الْأَنْعَامِ) [[راجع ج ٦ ص ٣٨٧ فما بعد.]] عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ انْطَلَقَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرَّحِمِ فَأَخَذَ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ فِيهِ فَيَذُرُّهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ النَّسَمَةَ مِنَ النُّطْفَةِ وَمِنَ التُّرَابِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [٢٠: ٥٥]". وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ صَعِدَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهَا فَيُفْتَحُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "اكْتُبُوا لِعَبْدِي كِتَابًا فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى" فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِتَمَامِهِ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ" وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَمَعْنَى" وَفِيها نُعِيدُكُمْ [٢٠: ٥٥] "أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ" وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ [٢٠: ٥٥]" أَيْ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ.
(تارَةً أُخْرى) يَرْجِعُ هَذَا إِلَى قَوْلِهِ:" مِنْها خَلَقْناكُمْ [٢٠: ٥٥] "لَا إِلَى" نُعِيدُكُمْ". وَهُوَ كَقَوْلِكَ: اشْتَرَيْتُ نَاقَةً وَدَارًا وَنَاقَةً أُخْرَى، فَالْمَعْنَى: مِنَ الْأَرْضِ أَخْرَجْنَاكُمْ وَنُخْرِجُكُمْ بعد الموت من الأرض تارة أخرى.
{"ayahs_start":53,"ayahs":["ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدࣰا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِیهَا سُبُلࣰا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦۤ أَزۡوَ ٰجࣰا مِّن نَّبَاتࣲ شَتَّىٰ","كُلُوا۟ وَٱرۡعَوۡا۟ أَنۡعَـٰمَكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ","۞ مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ"],"ayah":"۞ مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ"}