الباحث القرآني

قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع، حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة بمضي أربعة أشهر. وقال بعضهم: لا يقع الطلاق، ولكن يؤمر الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها. وقال بعضهم يقع الطلاق بمضي أربعة. أشهر وهو قول علمائنا. وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي أوجبوا الطلاق بترك الجماع فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم بكلمة الإيلاء عَلِيمٌ بهم. وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ، يعني وجب عليهن العدة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، أي ثلاث حيض. وقال بعضهم: ثلاثة أطهار. وقال أكثر أهل العلم: المراد به الحيض. وأصل القرء: الوقت. وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات، ولكن المراد به الخصوص، لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات: الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخولة. ثم قال: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، يعني الحمل والحيض، لا يحل لها أن تقول: إني حامل وليست بحامل أو إني حائض وليست بحائض إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يقول إن كن يصدقن بالله واليوم الاخر. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء، يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعياً. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، يقول بما عرف شرعاً، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، أي فضيلة في النفقة والمهر. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة. ثم بيّن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة، فقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، يعني يقول: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، يعني إذا راجعها، يمسكها بمعروف، ينفق عليها، ويكسوها، ولا يؤذيها، ويحسن معاشرتها أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يؤدي حقها، ويخلي سبيلها. ويقال: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها. ويقال: يتركها حتى تنقضي عدتها. ويقال يؤتي حقها ويخلي سبيلها ويقال: أو تسرح بإحسان. قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلق تطليقة أو تطليقتين، كان الزوج أحق بها وإذا طلقها الثالثة، كانت المرأة أحق بنفسها واحتج بقول الأعشى وكانت امرأته من بني مروان، فأخذه بنو مروان حتى يطلق امرأته، فلما طلقها واحدة قالوا له: عد فطلقها الثانية، فلما طلقها الثانية قالوا له: عد فطلقها الثالثة، فعرف أنها بانت منه ولا تحل له، فقال عند ذلك: أَيَا جَارتِي بِينِي فإِنَّكِ طَالِقَه ... كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَه وبَيِنِي فَإِنَّ البَيْنَ خَيْرٌ مِنَ العَصَا ... وَأَنْ لاَ تَزَالُ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَه وَذُوقِي قَنَى الحَيِّ إنِّي ذَائِق ... قَنَاة أُنَاسٍ مِثْلَ ما أنت ذائقة ثم قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وزوجها ثابت بن قيس وكانت تبغضه، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: لا أنا ولا ثابت فقال لها: «أَتُرَدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم وزيادة. فقال: «أَمَّا الزِّيَادَة، فلا» . فدعا رسول الله ﷺ زوجها وخلعها من زوجها، فذلك قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً من المهر إِلَّا أَنْ يَخافا، يعني: يعلما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي أمر الله فيما أمر ونهى. قرأ حمزة يَخافا بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله، والباقون: بالنصب. وقرأ ابن مسعود: إِلا أَنْ يخافوا. ثم قال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، يقول: إن علمتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، أي لا حرج على الزوج أن يأخذ ممَّا افتدت به المرأة، إن كان النشوز من قبل المرأة. فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحل له أن يأخذ، بدليل ما قاله في آية أخرى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: 20] . ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي أحكامه وفرائضه فَلا تَعْتَدُوها، أي لا تجاوزوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه بترك ما أمر الله تعالى أو بعمل ما نهاه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يقول: الضارون الشاقون بأنفسهم. ويقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، يعني الطلاق مرتان، فلا تجاوزوهما إلى الثالثة. وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله بالتطليقة الثالثة، فأولئك هم الظالمون فَإِنْ طَلَّقَها الثالثة، فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الثالثة، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، أي تتزوج بزوج آخر ويدخل بها وإنما عرف الدخول بالسنة. وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثاً، وكانت تدعى تميمة بنت وهب، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فأتت النبيّ ﷺ وقالت: إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن، ولم يكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها: «أَتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟» فقالت: نعم. قال: «لَيْسَ ذلك مَا لَمْ تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» . فذلك قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، يعني إذا طلقها الثالثة. قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني واحدة أو اثنتين فَلا جُناحَ عَلَيْهِما، يعني المرأة والزوج أَنْ يَتَراجَعا. ويقال: فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما دخل عليها، فلا جناح عليهما- يعني المرأة والزوج الأول- أن يتراجعا، يعني أن يتزوجها مرة أخرى. إِنْ ظَنَّا، يعني إن علما أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، أي فرائض الله يقول إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني. قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، أي فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه، يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. ويقال: إنما قال: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، لأن الجاهل إذا بيّن له، فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد والعالم يحفظ ويتعاهد. فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال. ثم وقوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن، وقبل أن يخرجن من العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان. قوله: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض، وأرادت أن تغتسل، راجعها ثم طلقها يريد بذلك أن يطول عليها عدتها. فنهى الله عن ذلك فقال تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً. لِتَعْتَدُوا، أي لتظلموهن. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإضرار، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يقول: أضر بنفسه بمعصيته في الإضرار. وقال الزجاج: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، يعني عرَّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه، تعرض لعذاب الله، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. ثم قال: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً، يعني القرآن لعباً. ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقاً، ويجعلونه لعباً، فنزل: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً. قرأ عاصم في رواية حفص: هُزُواً بغير همز، وكذلك قوله: كُفُواً أَحَدٌ [الصمد: 4] والباقون: بالهمز. وهما لغتان، ومعناهما واحد. ثم قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، يقول: احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ، يقول: احفظوا ما ينزل الله عليكم في القرآن من المواعظ وَالْحِكْمَةِ يعني الفقه في القرآن يَعِظُكُمْ بِهِ، يقول: ينهاكم عن الضرار. وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرار، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من أعمالكم فيجازيكم به. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يقول: انقضت عدتهن فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، يقول: لا تحبسوهن ولا تمنعوهن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، أي يؤمر به. مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أي يصدق بالله واليوم الآخر ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني خير لكم ويقال: أصلح لكم، وَأَطْهَرُ من الريبة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ من حب كل واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك. ويقال: ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة، لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها، فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء. وقال الضحاك: والله يعلم أن الخير في الوفاء والعدل، وأنتم لا تعلمون ما عليكم بالتفريق من العقوبة ومن العذاب. وقال مقاتل: فدعا رسول الله ﷺ معقلاً، وقال: «إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنَاً فَلَا تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الدَّحْدَاحِ» ، فقال: آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح، كان للحاكم أن يزوجها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب