الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: ﴿وما تكون﴾ ، يا محمد= ﴿في شأن﴾ ، يعني: في عمل من الأعمال= ﴿وما تتلوا منه من قرآن﴾ ، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن [[انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا.) .]] ﴿ولا تعملون من عمل﴾ ، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس، من خير أو شر= ﴿إلا كنَّا عليكم شهودًا﴾ ، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم، إذ تعملونها وتأخذون فيها. [[انظر تفسير " الإفاضة " فيما سلف ٤: ١٧٠.]] * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة. * ذكر من قال ذلك: ١٧٦٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ ، يقول: إذ تفعلون. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ. * ذكر من قال ذلك: ١٧٦٩٧- حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ ، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. [[في المطبوعة: " فتشيعون " بالفاء، لم يحسن قراءة المخطوطة.]] * * * وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق. * ذكر من قال ذلك: ١٧٦٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ ، في الحق ما كان. ١٧٦٩٩-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ١٧٧٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. * * * قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: ﴿إذ يفيضون فيه﴾ ، فكان معلومًا أن قوله: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد= لا عن وَقْت تلاوة النبي ﷺ القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: "إذ يفيضون فيه" خبرًا منه عن المكذبين فيه. فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي ﷺ، [[في المطبوعة: " ولكن خطاب "، بحذف الهاء، وأثبتها من المخطوطة.]] أنه شاهده إذْ تلا القرآن. =فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ ، لأن النبي ﷺ واحدٌ لا جمع، كما قال: ﴿وما تتلوا منه من قرآن﴾ ، فأفرده بالخطاب= ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه ﷺ بالإفراد، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ، [سورة الطلاق: ١] ، وذلك أن في قوله: ﴿إذا طلقتم النساء﴾ ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي ﷺ مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي ﷺ فيهم. =وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد، [[قوله: " وخبر عن أنه لا يعمل أحد " معطوف على قوله في أول هذه الفقرة: " إنما هو خبر عن وقت عمل العاملين. . . ".]] يحصى عليه ويعلمه كما قال: ﴿وما يعزب عن ربك﴾ ، يا محمد، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء. * * * وأصله من "عزوب الرجل عن أهله في ماشيته"، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: "عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ". * * * =لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه، لأنه أغلب على المشهورين من القراء. * * * وقوله: ﴿من مثقال ذرة﴾ ، يعني: من زنة نملة صغيرة. * * * يحكى عن العرب: "خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. [[انظر تفسير " المثقال " فيما سلف ٨: ٣٦٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٧٨، وهو نص كلامه.]] * * * و"الذرّة" واحدة: "الذرّ"، و"الذرّ"، صغار النمل. [[انظر تفسير " الذرة " فيما سلف ٨: ٣٦٠، ٣٦١.]] * * * قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها. * * * واختلفت القراء في قراءة قوله: ﴿ولا أصغر من ذلك ولا أكبر﴾ . فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من ﴿أَصْغَرَ﴾ و ﴿أَكْبَرَ﴾ على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما، لأنهما لا يُجْرَيان. * * * وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن ﴿مِنْ﴾ لو ألقيت من الكلام، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: "وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ"، وذلك نحو قوله: ﴿مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ﴾ ، و ﴿غَيْرُ اللهِ﴾ ، [سورة فاطر: ٣] . [[لم يذكر أبو جعفر قراءة الرفع في هذه الآية، في موضعها من تفسير " سورة فاطر "، فيما سيأتي ٢٢: ٧٧ (بولاق) ، وسأشير إلى ذلك في موضعه هناك. وهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر، تفسيره في مواضع، كما أشرت إليه في كثير من تعليقاتي.]] * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار، وعليه عَوَامٌّ القراء، وهو أصحُّ في العربية مخرجًا، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ. * * * وقوله: ﴿إلا في كتاب﴾ ، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله = ﴿مبين﴾ ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. [[انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .]] أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه. * * * ١٧٧٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ﴿وما يعزب﴾ ، يقول: لا يغيب عنه. ١٧٧٠٢- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: ﴿وما يعزب عن ربك﴾ ، قال: ما يغيب عنه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب